كثيرة هي التغييرات التي تعرضت لها البيئة الفلسطينية، خاصة في قطاع غزة ، وكثيرة هي الملوثات لهذه البيئة لدرجة أن هذه التغيرات وهذه الملوثات قد فرضت نمطا جديدا من الحياة التي يحيياها سكان القطاع ، أما التغيرات التي طرأت على البيئة فهي تعيرات على المكون البيئي لقطاع غزة ، وهو تغير جاء نتيجة طبيعية للنمو الطبيعي للسكان من جهة وضيق المجال البيئي من جهة أخرى ، حيث المساحة الصغيرة من الأرض يتزاحم عليها مئات الآلاف من السكان، لهم متطلباتهم وحاجاتهم ، في ظل أوضاع سياسية غبر مستقرة لتلقي بظلالها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للسكان، إما المتغيرات على المكون البيئي فيمكن ملاحظتها وبشكل واضح كاختفاء الكثبان والتلال الرملية الذهبية الصفراء التي كانت تنتشر على طول الجانب الغربي لقطاع غزة موازية للساحل وبمتوسط عرش يصل إلى نحو خمس كيلومترات أحيانا ، واختفاء الشكل الجميل والطبيعي لشاطئ قطاع غزة الذي أفسدته وجود الكثير من المنشآت السياحية مثل استراحات وفنادق ومطاعم ومعرشات الاستجمام صيفا ، أما في الجانب الشرقي فقد انخفضت المساحة الخضراء لتظهر الكتل الإسمنتية هنا وهناك بسبب التوسع العمراني الأفقي للسكان ، أما باقي أنحاء القطاع لا يختلف عما سبق حيث تزايد الازدحام العمراني بشكل كبير لدرجة يحيل للمرء أننا نعيش في مدينة من كبريات المدن في العالم .
أما عن الملوثات فحدث عنها ولا حرج بعضها طبيعي وهو نتاج التزايد الكبير في عدد السكان حيث الكثافة الأكبر سكانيا في العالم ، وما ينتج عنهم من كميات كبيرة من النفايات الصلبة سواء أكانت نفايات منزلية أو صناعية أو صحية أو مخلفات البناء ، وهناك تلوث ونقص المياه وتلوث الهواء لازدياد عدد الآليات والمركبات والورش الصناعية ، وما تنفثه من أبخرة وغازات في الهواء، وهناك أمر آخر هو الضجيج الناتج عن صخب الأنشطة المختلفة بالإضافة إلى ما ينتج عن الممارسات الإسرائيلية العدوانية حيث التحليق المستمر لطائرات الاستطلاع ، بأصواتها المتواصلة التي تزعج الصغير والكبير، وأصوات الطائرات الحربية الإسرائيلية غارتها الوهمية ، وانفجارات صواريخها وقنابلها التي تلقيها على السكان ومنشآتهم يسن الفينة والأخرى ، كل هذه الأمور ترك آثارا كبيرة كما ذكرنا على نمط الحياة في القطاع ،فبالإضافة إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية ، فإن هناك مزاجا نفسيا معينا أصبح ينتشر بين السكان يؤدي في كثير من الأحيان تزايد بل وإحلال ظواهره مرضية لم تكن موجودة في الماضي بالشكل الذي يظهر اليوم، فالعنف الأسري ، والعنف المجتمعي ، حيث الشجارات العائلية ، وغيرها من المشاكل ، التي ستؤثر حتما على النسيج الاجتماعي .
مناسبة ما أكتبه هو ما لاحظته من أن الإنسان وهو في خضم العمل في موضوع معين أو مواضيع ولفترة طويلة نسبيا ، ربما لا يجد فيه فرصة للتأمل بشكل اكبر فيما يحدث من حوله ،أو في الوسط الذي يعيش فيه ، ولكن عندما يجلس ليستريح تبدوامامه الأشياء واضحة كصورة بانورامية ، ففي فترة عملي السابق في ميدان المعلومات ، من حيث توفيرها ، وتوثيقها ، وأرشفتها ، وفي كثبر من الأحيان إعادة قرائنها وتحليلها ، لنضبح جاهزة لكل من الباحثين والطلاب ، والمسئولين ، والإعلاميين ، ورجال التنمية والتخطيط ، ما يساعد كثيرا في اتخاذ القرارات ، وقد شغلت الانتهاكات الإسرائيلية للبيئة الفلسطينية مساحة كبيرة من عملي لأنني بالإضافة إلى إشرافي على هذا العمل لعدة سنوات ، تناولت فيها بشكل خاص مجالات البيئة والمياه لعلاقتهما الوثيقة بالعلوم الجغرافية التي كانت من صميم تخصصي العلمي ، وربما لهذا يأتي هذا الحديث نظرا لما أراه والمسه من فوارق كبيرة بين الماضي البعيد عندما كنا أطفالا وبين ما نشهده اليوم من اختلال بيئي في قطاع غزة يبقي بظلاله على الوضع الصحي والنفسي والاجتماعي على السكان.
وربما يأتي مروري على تله المنظار الذي اقطن بالقرب منها وما أكثر ما مررت ووقفت ، لكن هذه المرة عندما نظرت إلى اتجاه الغرب شعرت وكأنني انظر لأول مرة حيث مشهد مدينة غزة تكون أمامك وتراها وكان كتله ضخمة من الباطون أو كومة هائلة من قطع الاسمنت الضخمة مكدسة بشكل منتظم أحيانا وغير منتظم أحيانا أخرى ، وأتذكر في الماضي عندما كنا نقف في نفس المكان ، حيث نرى مدينة غزة وشريط ازرق يمتد خلفها ، نعم انه البحر بمياهه وأمواجه ، اليوم أصبحنا لا نرى شيئا من هذا المنظر فلقد اختفى تماما ، هذا أعادني إلى سنوات العمر الأولى عندما كنا عند حلول آذان المغرب وفي شهر رمضان المبارك نقف على الأرض في منازلنا ونرى مئذنه المسجد العمري الكبير تشعل إنارتها إيذانا بقرب سماع صوت مدفع الإفطار، يحدث هذا على الرغم من البعد النسبي لمنطقتنا عن المسجد ، اليوم اختفت هذه الصورة تماما ، وفي الصياح الباكر لكثيرمن الأيام نسمع صوت بوق كان ينتشر في أرجاء غزة وعندما كنا نسأل أبائنا وأجدادنا عن هذا الصوت كانت الاجابه انه صوت بابورالبحر والمقصود هنا الباخرة ، لقد كانت ترسو بعض البواخر بين الفترة والأخرى على بعد يضع كيلومترات من شاطئ غزة لتفريغ حمولتها من البضائع المستوردة وشحن بعض البضائع التي تنتج في غزة واغلبها محصول البرتقال ، البرتقال الذي كان من أهم صادرات قطاع غزة ، اليوم نجد أن هذا البرتقال قد اختفت أشجاره وثماره، وحل محله ما يستورد من خارج القطاع ، حالة أخرى كنا نسمعها دائما خاصة في الصياح الباكر صوت جرس الكنيسة التي كانت تقرع خاصة يوم الأحد ورنينها المتواصل فترة ليست طويلة ، وأشياء أخرى جميلة كنا نراها حيث نرى فصل الربيع واضحا بعد أن تخضر الحقول وجوانب الشوارع وأنواع الزهور الرهية المختلفة الأشكال والألوان, اليوم ماذا ترى، إن أول ما تراه في غزة هو اختفاء المساحات الخضراء التي باتت قليلة بل نادرة، امتلأت الفراغات لدرجة أصبح الزحام هو الطابع المسيطر، زحام بشر، وزحام آليات، وما ينتج عن هذا الزحام من نتائج سلبية.
أسوق هذه المشاهد داعيا سكان المدينة محاولة الحفاظ على مدينتهم ، تزايد مظاهر التلوث البيئي، بفاقم الأضرار الناتجة ، وربما تزايد عدد حالات أمراض مثل أمراض السرطان والمفاصل والعظام والجهاز الصدري ما هي إلا أمراض ناتجة عن هذا الخلل البيئي، ناهيك عن المزاج العصبي المائل إلى العنف الذي أصبح بنتشربين قطاعات كثيرة قطاع غزة، مشاهد يمكن لمسها والإحساس بها ، تحتاج إلى دراسات عميقة للوقوف على أسبابها، كما على الجهات الرسمية المعنية اتخاذ الإجراءات الكفيلة بالحفاظ على سلامة البيئة قدر الإمكان.