أوكازيون التسوية !

بقلم: محمد السودي

ثمة غموضٌ مقصود يكتنف الجهود الأمريكية الحثيثة حول مصير التسوية السياسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي ، تتعلق باليوم التالي الذي يلي المهلة المحدّدة أواخر نيسان القادم لإنجاز اتفاق حول القضايا الجوهرية المستعصية على المقاربات التي ابدتها الإدارة الأمريكية في باديء الأمر ثم تراجعت عنها أمام التعنت والعربدة الإسرائيلية من جهة والفشل المتنامي للسياسة الخارجية الأمريكية المنكفيء دورها على المستوى الدولي من جهةٍ أخرى ، وأصبحت تتحدث عن اتفاق إطار متدنـّي هزيل ذو خلفية منحازة لحليفتها الإستراتيجية لم تتضح معالمه بعد تقول أنه قابل لتحفظات الأطراف المعنية على أيٍ من بنوده لكنّه يشكـّل أساساً لعملية تفاوضية جديدة متجددّة تحرفه عن المسائل الجوهرية للصراع وقرارات الشرعية الدولية القاضية بإنهاء الإحتلال وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني والإعتراف الناجز بدولة فلسطين المستقلة بأغلبية ساحقة في الجمعية العامة للأمم المتحدة بصفتها واقعة تحت الإحتلال ، تماما كما يحصل في عروض بازار تصفيات نهاية الموسم متجاهلة أن حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والسياسية غير قابلة للمساومة أو التفريط مهما بلغت الأثمان ، مايعني توفير الوقت اللازم لتنفيذ مخططات الإحتلال الإستعمارية الإستيطانية المتسارعة وتهويد ماتبقى من مدينة القدس وإجراءاته التعسفية بحق الإنسان الفلسطيني وممتلكاته والتطاول على مقدساته .
تعوّل الإدارة الأمريكية على ما تبقـّى من وقت قصير للخروج بأي صيغة كانت ينقذها من المأزق الذي وصلت إليه لحفظ ماء الوجه ، وبالتالي تنتظر لقاءات الفرصة الأخيرة أوائل شهر مارس بين الرئيس الأمريكي باراك أوباما ، وكل من رئيس حكومة الإحتلال المستقوي بمجموعات الضغط اللوبي الصهيوني ولجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية "الإيباك" داخل الولايات المتحدة والذي لايبدي رغبة حقيقية بالتوصل لأي اتفاق ممكن نتيجة رؤيته الإيديولوجية القائمة على نكران الحقوق الفلسطينية ، وكذا دعوة الرئيس الفلسطيني زيارة البيت الأبيض على التوالي لذات الغرض بعد اللقاء العاصف والصعب في باريس بين الرئيس الفلسطيني ووزير الخارجية الأمريكي ، بينما تـُغرق حكومة الإحتلال ووسائلها الإعلامية المنطقة بمشاريع وهمية وأكاذيب منظمّة تهدف إلى أرباك الوضع الفلسطيني والعربي من خلال بالونات اختبار وزرع الشقاق كالوطن البديل المرفوض جملة وتفصيلا أو إقدامها على مغامرة عسكرية عدوانية على قطاع غزة الغرض منها خلط الأوراق ، ثم طرح مناقشة مشاريع قوانين عنصرية خطيرة أمام الكنيست حول السيادة على الحرم القدسي الشريف ، وأخرها الإنسحاب من أراضي الضفة الفلسطينية بشكل أحادي الجانب وفق الرؤيا الإحتلالية تعيد ترسيم الإحتلال وتقضم مايزيد على ستين بالمائة من أراضي الضفة مايعني فرض سياسة الأمر الواقع التي تستحضر نموذج نظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا إن لم يتم التوصل لاتفاق حسب زعمهم .
لا يبدو في الأفق القريب تغييراً جوهرياً ملموساً للمواقف المتباعدة بين طرفي معادلة الصراع في ظل تبنّي الإدارة الأمريكية المواقف المتطرفة الإسرائيلية التعجيزية التي تنسف أي إمكانية للقبول بها إن كان لجهة الإعتراف "بيهودية الدولة" المصطلح المُستحدث للتهرب من الإستحقاقات المترتبة على العملية السياسية أو مايتعلق بوضع مدينة القدس المحتلة باعتبارها العاصمة المنشودة للدولة الفلسطينية ، وأيضاً بقاء جيش الإحتلال على الحدود الفاصلة مع الأردن ، والقضية الأهم المثيرة للعواطف والوجدان الفلسطيني حيث تلامس مشاعر مايزيد على خمس ملايين لاجيء فلسطيني كرسـّوا جل حياتهم بانتظار الفرصة السانحة للعودة إلى أرضهم وديارهم التي شردّوا منها عنوةً على أيدي العصابات الصهيونية أبان النكبة المشؤومة ، فضلاً عن عدم توفر الرغبة الحقيقية لدى الإدارة الأمريكية ممارسة الضغوط على حكومة الإحتلال لأسباب داخلية ترتبط بالخارطة الإنتخابية وحسابات قوى النفوذ ، وعلى النقيض من ذلك ستنصبّ كافة الضغوط على الجانب الفلسطيني مضافاً إليها الضغوط الأوروبية والعربية للقبول باتفاق إطارٍ مرن غير واضح المعالم يتيح المجال لتمديد المفاوضات إلى مابعد التاسع والعشرين من نيسان القادم تتحدث الأنباء عن تسع شهورٍ أخرى وفق مانقل عن لسان وزير الخارجية الأمريكي جون كيري خاصةً أن الحالة الفلسطينية شديدة التعقيد لاتسمح بالتحلـّل من هذه المفاوضات العقيمة خشية تحميلها مسؤولية فشل جهود البيت الأبيض وهو مايتمناه رئيس وزراء حكومة "نتنياهو"واثبات نظرية قادة الإحتلال"لايوجد شريك فلسطيني" وبالتالي تحمل نتائج مايترتب على ذلك من وجهة النظر الفلسطينية الرسمية ، كما لايمكنها القبول المساس بالثوابت الفلسطينية وركائز المشروع الوطني ، مايؤكد على ضرورة الإستعداد لأيام قادمة صعبة .
كان يمكن إدراج اللقاء الذي جرى مع شريحة من الشبيبة الإسرائيلية في المقـّر الرئاسي الفلسطيني بمدينة رام الله في إطار محاولات العلاقات العامة الهادفة إلى تغيير الصورة النمطية الحصرية للخطاب السياسي لحكومة الإحتلال المستند الى الرواية الصهيونية حول طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وإحداث اختراق محدود في الشارع الإسرائيلى الذي يميل عادةً بنسبة ساحقة إلى التطرف وتصديق أضاليل حكومته ، لو أن الحديث اقتصر على معاناة المواطن الفلسطيني الرهيبة على حواجز الذل والهوان، عن لقمة العيش الممزوجة بالعرق والدم للعمال الذين يقضون عشرون ساعة يوميا لالتقاط قوت أطفالهم ، للأسرى وعذابات عوائلهم ، للتحريض العنصري والكراهية البغيضة وزرع الأحقاد التي تعتمر صدور أقطاب الحكومة الإئتلافية اليمينية المتطرفة هؤلاء المتفاخرين بقتل الإنسان العربي ، لعدوان جيش الإحتلال وقطعان مستوطنيه المدججّين بالسلاح والعتاد وعصابات "دفع الثمن" الإرهابية المدعومة من أجهزة الأمن الإسرائيلي وجمعيات الإستيطان ظلمٌ جائر مستمر ليل نهارعلى الشعب الفلسطيني وممتلكاته ومقدساته ، لولا اختيار الوقت غير الملائم للحديث عن رسائل سياسية مجانية لا صدى لها يذكر من شأنها إحداث حالة الجدل داخل البيت الفلسطيني الذي يقف على سلم أولوياته تجميع عناصر قوته واستعادة وحدته الوطنية التي طال انتظارها في مواجهة مخططات الإحتلال الرامية إلى تثبيت وقائع جديدة على أرض الواقع ، قد يكون ماحصل نتيجةً طبيعية لسياسة الإجتهاد والتجريب السائد في الساحة الفلسطينية التي لا تمتلك الخطط الإستراتيجية سواءً كانت قصيرة أم بعيدة المدى اعتماداَ على ردود الأفعال من موقع المتلقـّي وليس صانعاً أو مؤثراً بالحدث .
حان الوقت كي يُعاد النظر بالسياسات العشوائية والإرتقاء إلى مستوى التحديات الراهنة التي تتطلب الإصلاح البنيوي المؤسساتي على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الوطنية حتى يكون لها الدور الريادي القادرعلى درء كافة المخاطر المحيقة بالمشروع الوطني وفق استراتيجية وطنية جامعة تحسب الحساب لأصعب الأمور مايجعلها مؤهلة للسير بخطىً ثابتة نحو تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني بالحرية والإستقلال والعودة ،أما الشعب الفلسطيني المرابط على أرضه وكذلك المنتظر عودته الحتمية عاجلاً أم أجلاً من المنافي وأماكن الشتات فلن يشارك بعروضٍ تصفية سياسية منتهية الصلاحية لاتستحق سوى رميها في مكبّات النفايات ...
كاتب سياسي