بداية علينا القول بأن الإشاعة تنتشر بشكل واسع انتشار النار في الهشيم في المجتمعات المتخلفة بشكل اساس،المجتمعات التي تعطل لغة الفكر والعقل،وتستند في مصادرها ومعلوماتها وقناعاتها الى الغيبيات وثقافة الدروشة والشعوذة والأساطير، وتساهم في ذلك أفراد ومؤسسات وسائل إعلام مأجورة ومجندة لهذا الغرض والهدف.
وكذلك الإشاعة هي سلاح هدام تستخدمه مجموعات وقوى ودول من اجل التأثير على الرأي العام العالمي،وتغيير قناعته وأفكاره في بلدانها او عند الشعوب الواقعة تحت إحتلالها،وتجد هذه الظاهرة موجودة بشكل واسع في فترة الأزمات والحروب والهزائم،فعلى سبيل المثال لا الحصر في فترة الحرب الأطلسية على العراق قبل إحتلاله،وجدت الكثير من الناس يتحدثون عن رؤية صور الرئيس الراحل الشهيد صدام حسين في القمر، وكذلك في مرحلة الهزيمة وفي إطارها تبريرها يبدأ الناس بتضخيم الأمور والحديث عن فظائع وجرائم مرتكبة بحقهم هي التي دفعتهم لترك اوطانهم او مدنهم وبلداتهم،وقد يكون حقيقة حدثت جرائم ومذابح،ولكن ليس بالصورة او الطريقة التي يجري نقلها او تداولها،وكذلك تستخدم الإشاعة لقتل الروح المعنوية لشعب او جيش ما في الحروب والمواجهات وغيرها،فنحن العرب لأننا منينا بعده هزائم على يد جيش الإحتلال الصهيوني،تولدت لدينا قناعات بان جيش الإحتلال لا يقهر،وبأن الكف لا تناطح مخرز،ولتكن حرب تشرين المجيدة عام 1973 ومن بعدها حرب تموز/2006 على حزب الله والمقاومة اللبنانية،ولنكتشف بان هذا الجيش المرفوع في أهاننا وعقولنا وثقافتنا الى مستوى الأسطورة،وبلغة سماحة الشيخ حسن نصر الله هو اوهن من بيت العنكبوت.
لا شك بأن تلك الظاهرة تحظى بانتشار واسع بين الشعوب التي تعاني من الإحتلال وغياب الوعي وكذلك الفقر والجوع والاضطهاد والقمع والتخلف والجهل،هي من المرادفات لوجود وتأصل هذه الظاهرة عند تلك الشعوب.
وفي حالتنا كشعب فلسطيني،فإن الإحتلال وادواته يعملون بشكل ممنهج ومنظم على إختراق وتدمير مجتمعنا،من أجل بث الهزيمة والإحباط بين صفوفه،أو تدمير نسيجه المجتمعي،ولعل حرب الإشاعة هي واحدة من وسائل وادوات الإحتلال في هذا المجال،فهو على سبيل المثال يشيع مناخات إحباطية وتيئيسية،تصل عند البعض منا لحد القناعات،بأن الفلسطينيين لن يستطيعوا الحصول على وطن،عن طريق المقاومة والنضال،بل المفاوضات هي طريقهم الوحيدة.وهو يجند لذلك افراداً ونخب مختلفة ومؤسسات اعلامية وصحفية ومجتمعية،تتولى القيام ببث سمومها في هذا الإتجاه،وبما يعمق من ازمة المجتمع والناس لتصل حالة من الإحباط واليأس والقنوط،وتصبح مطوعة وجاهزة،لكي تتخلى عن حقوقها وثوابتها وقناعتها،والقبل بمبدأ أنه من المستحيل أن تحصل على اكثر مما يعرضه عليها الإحتلال.
وبالعودة الى مجتمعنا المقدسي،فالإحتلال يشن حرباً شاملة على المقدسيين تطالهم في كل مناحي وشؤون وتفاصيل حياتهم اليومية،ويتعامل معهم الإحتلال بطريقة الأزمات المتوالية والمتكررة،ليس فقط من اجل قتل روحهم المعنوية وبث الإحباط واليأس في صفوفهم،من خلال سلسلة طويلة وضخمة من إجراءاته وممارساته القمعية والإذلالية بحقهم فقط،بل هو يريد تحطيمهم وفكفكتهم مجتمعياً في حرب ضروس لا هوادة فيها،ليس أيضاً عبر الإحتراب العشائري والقبلي والجهوي"الطوش" والمشاكل الإجتماعية،ونشر الآفات والأمراض الاجتماعية في صفوفهم من مخدرات ودعارة وغيرها،بل يرى بأن القتل الكلي لهذا المجتمع،ولجعله مسكوناً بالخوف والقلق والرعب،وبعيداً عن الوعي والتصدي والمواجهة لما يقوم به من إجراءات وممارسات بحق مدينتهم ومقدساتها ووجودهم فيها،لا بد أن يكون عبر بث السموم والإشاعات،والضرب على العصب الحساس لهذا المجتمع الطفل او البنت حيث الخوف على شرف الفتاة يصل الى مرحلة القداسة،والطفل وما له من قيمة ومعزة عن الأهل،وبالتالي تتولى اجهزته ووسائله صناعة الخبر"الإشاعة" وتقوم بتغذيتها ونشرها عبر تلك الأدوات،مستغلة حالة الجهل والتخلف وغياب الوعي عند الناس،والتي يحتكم أغلبها الى العاطفة والمشاعر والتعاطي مع الاشاعة على انها حقيقة والعمل على بثها ونشرها مع اسقاط الذات عليها تضخيماً،ويساهم في ذلك بقصد او بدون قصد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية،والتي في الكثير من الحالات اخبارها وما تقوم بنشره لا يستند الى مصدر او سند موثق او موثوق،وتنجر لذلك وسائل الإعلام التي تبدأ بالنشر والتعميم،مما يكسب تلك الظاهرة "الاشاعة" حيزاً من التعاطي على اساس انها حقيقة،وتصبح مقاومتها او التصدي لها بحاجة الى جهد كبير ومضني.وقد شهدنا ذلك من خلال انتشار الاشاعات انتشار النار في الهشيم في اوائل الاسبوع الماضي،عن يقام فتيات منقبات يعملن مع عصابات من أوكرانيا من اجل إستدراج اطفال المدارس في مدارس القدس العربية داخل جدار الفصل العنصري،وركزوا على كلمة داخل جدار الفصل العنصري،وهدف عملية الاستدراج والخطف الاستيلاء على اعضاء الاطفال والمتاجرة بها،ووجدت تلك الاشاعة ارضا خصبة لها،حيث جرى تداولها والتعاطي معها على اساس انها حقائق،حيث وجدنا تلك الظاهرة طالت اغلب قرى القدس الواقعة داخل الجدار،صورباهر،إمليسون،المكبر،سلوان،رأس العامود ،الطور،العيساوية،شعفاط،الثوري،بيت حنينا وبيت صفافا وغيرها،والحديث جرى عن اختطاف فتيات واطفال والتي كان آخرها امس الحديث عن اختطاف طفل في الطور،وليتضح بان تلك الاشاعة لا اساس لها من الصحة.
هذه الظاهرة وسرعة انتشارها،إستندت ليس فقط لدور واهداف جماعات لها اهداف مشبوهة من تلك العملية،بل شدة ما يعانيه اهل القدس من مشاعر الاحباط واليأس وحجم الخراب الواسع الموجود في مجتمعهم بسبب الاحتلال وسياساته واجراءاته وممارساته،وغياب الحاضنة والعنوان،يوفر تربة خصبة لانتشار مثل هذه الظاهةر،وكذلك تلعب مواقع التواصل الاجتماعي والأفراد المستخدمين لها،حيث لا يوجد أي رقابة على تلك المواقع،والتي تعمل بحسن نية او بسوء نية على سرعة تعميم تلك الاخبار دون التحقق من دقة وصحة المعلومة،وما قد تحدثه من تأثيرات سلبية،وخلق حالة من القلق والخوف والرعب بين الناس.
ورأينا كيف ان تلك الظاهرة وتعميمها وانجرار الناس بما فيهم الواعين منهم للتعاطي معها،كيف خلق حالة من الهلع والفزع بين الناس،وصلت الى حد الهستيريا،وأصبح هاجس الناس،كيفية توفير الامن والامان لاطفالهم،وأصبحوا معدين نفسياً لتصديق تلك الاشاعة والعمل على تداولها حال سماعها،ونشرها مضخمة على اوسع نطاق.
ونحن نرى بأن يكون الناس حذرين ومهتمين بأطفالهم،وليس مساهمين في بث ونشر تلك الاشاعات والتعاطي معها على اساس انها حقائق،وهنا يكمن دور القيادات الوطنية والمجتمعية والتربوية والدينية،في مواجهة تلك الظاهرة والتصدي لها،ووضع الطرق والوسائل المناسبة لكيفية مواجهتا والتصدي لها،فهي حرب نفسية خطرة جداً وجزء من المعركة التي تشن على شعبنا الفلسطيني عامة واهلنا في القدس خاصة.
واود هنا ان أشدد القول على ان هذه الحرب النفسية"الاشاعة" مرتبطه بما يخطط له الإحتلال لمدينة القدس،حيث ان الأيام القادمة ستشهد هجمة شاملة على الأقصى من اجل عملية تقسيمه،وبالتالي لكي تمر تلك العملية بسلام فالمطلوب تدمير وقتل عامل الامن الذاتي عند الناس في عصبهم الرئيسي فلذات اكبادهم وشرف فتياتهم.
نعم نحن امام حرب نفسية خطرة"الإشاعة"والتي هزمت جيوشاً ودمرت بلدناً باكملها،فالحيطة والحذر وتوخي اليقظة وامتلاك الوعي،واعمال العقل والفكر بدل الشعوذة والدروشة والغيبيات من العوامل الهامة على طريق المواجهة،وكذلك القيادات السياسية والوطنية والمجتمعية والدينية والاعلامية والتربوية مطالبة بأن تبدد مخاوف الأهالي،وان تضع تلك الظاهرة في حجمها ونصابها وتوضح الاهداف والمرامي منها.