يخطئ من يظن أن خريف حركة الإخوان المسلمين قد بدأ، وأن مرحلة الإنهيار في تنظيمهم قد انطلقت، وأنهم باتوا في انحدار، وأن شعبيتهم أخذت في التراجع، وأن الضربات التي تعرضوا لها ستقعدهم، وستشل حركتهم، وستقضي على شرعيتهم، وستسأصلهم من الأرض، وستخلعهم من الجذور، ولن يعودوا قوةً في الشارع، ولا محركاً للجماهير، ولا جاذباً للشباب، أو إطاراً للطلاب، أو ناظماً للنقابات والإتحادات، وملهماً لكثيرٍ من الطاقات المبدعة، والإمكانات الخلاقة، والآفاق الرحبة.
ربما ينطلق البعض في تقييمه للأمور، وفي قراءته للمرحلة الراهنة من منطلقاتٍ حزبيةٍ ضيقة، متكئاً على إرثٍ قديم، وموروثاتٍ سيئة، تقوم على الكره والحسد، والتباغض والاختلاف، وتتطلع إلى الثأر والانتقام، وتتمنى لهم الهزيمة والانكسار، والتحلل والذوبان، والتفكك والانحسار، ويعنيها الشماتة بهم، والتشفي بحالهم، ولا تتمنى التخفيف عنهم، أو الصبر عليهم، أو محاولة تفهم ظروفهم، والحوار معهم، أو التخفيف عنهم، والوساطة بينهم وبين السلطات، للوصول إلى حلولٍ وسط، تبقي على التنظيم، وتحقق الأمن للسلطات، وتحول دون بقاء المخاوف منهم، لكن حالة الكره بينهم، ودرجة التنافس معهم، تمنعهم من التفكير السوي السليم، وتحول بينهم وبين الحكمة والعقل والرأي السديد.
لا شك أن الحركة قد تلقت ضرباتٍ موجعة، وقد أصابتها في أكثر من مكان، بما يجعل من احتمال سقوطها لدى البعض وارداً، بل حتمياً وطبيعياً، إذ لا يقوى تنظيمٌ على تحمل ما تعرضوا له، أو استيعاب الضربات التي وجهت إليهم، سواء الأمنية أو القضائية أو التشريعية، فما من تنظيمٍ يواجه بهذا الإجماع العربي الرسمي، ويتابع بهذا الحجم من التنسيق المشترك، والمتابعة الدقيقة في كل البلاد، في ظل التقنية العلمية الهائلة، التي تتيح لهم المتابعة والرقابة والتضييق والتشديد، والدخول إلى الأجهزة الإليكترونية، والتجسس على الهواتف والحواسيب الشخصية، بما يمكنهم الحصول على أكبر كمٍ ممكنٍ من الأسرار والبيانات والمعلومات، التي من شأنها أن تجهض التنظيم، وتضعف قدراته، وتحبط عناصره، وتفقد الأمل لدى المنتسبين إليه، والعاملين فيه.
لكن القائمين على الحملة، والمنظمين للهجمة، والمشرفين عليها، ممن ينسقون ويتابعون، ويخططون وينفذون، يدركون تماماً أن حركة الإخوان المسلمين عصية على الاستئصال، وأصعب من أن تجتث من الأرض، وأكبر من أن تشملها إجراءاتٌ أمنية أو تشريعية، فهي التنظيم العربي الأقدم، والذي قارب عمره على القرن، وما زال يشغل الدنيا كلها، وينتشر في جهاتها الأربع، وينتسب إليها رغم كل الظروف السيئة محبون ومؤمنون بها في كل مكانٍ في العالم، في الوقت الذي تستمر فيه حملات التشهير والتشويه، والإساءة وتلفيق التهم وإصدار الأحكام، علماً أن الكثير من المنتظمين في صفوفها هم من الطبقات المثقفة الواعية، ومن حملة الشهادات العلمية العالية، ومن المختصين في مختلف المجالات، ممن يوصفون بالعقول النيرة، ويمتلكون مواهب كبيرة، وقدراتٍ فذة.
هم يعلمون أن هذه الحركة قد تعرضت لحملاتٍ أمنية أشد وأقسى، وأن السلطات الرسمية قد تعقبتها وحاربتها، وضيقت عليها وحاسبت المنتسبين إليها، وأن قادتها قد علقوا على أعواد المشانق، وأعدم في أقبية التحقيق المئات من رجالها، وقضى الكثير منهم سنواتٍ داخل السجون والمعتقلات، وقد سبق أن حظرهم القانون، ومنعتهم السلطات، واعتبرتهم حزباً محظوراً، وتنظيماً مخالفاً للقانون، ولكن الحركة مضت وقويت، وواجهت وتحدت، وصبرت واحتملت، حتى غدت الحركة الشعبية الأوسع انتشاراً، والأكثر تنظيماً، والأقدر على القيادة والإدارة والعمل والعطاء.
حركة الإخوان المسلمين التي تضرب جذورها في أوائل القرن العشرين، مازالت تمخر عباب الحياة حتى اليوم، رغم قسوة الظروف التي تواجه، وصعوبة القرارات التي تصدر بحقها، أو التشريعات التي تسن لمواجهتها، وتقف على قدميها رغم الحملة الإعلامية الشرسة، التي يقوم عليها كتابٌ وصحفيون، لا يكتبون بقناعاتهم، ولا ينشرون ما يؤمنون به، وإنما يكتبون قناعات الآخرين، وينشرون تعليمات القائمين، وينفذون سياسات الحاكمين، الذين يدفعون أكثر، ويعطون بسخاء كل قلمٍ سيال، ولسانٍ ذلقٍ قوال، طالما أنه يغرد معهم، ويتوافق وأهدافهم، ويحقق رغباتهم، وقد أصبحت أقلامهم على الحركة أشد من البنادق، وأصواتهم أعلى من دوي القذائف، الأمر الذي مهد السبيل أمام السلطات لتشريع القوانين الجديدة، التي تحظرها وتصفها بالإرهاب، وتجيز كل أشكال مواجهتها والتصدي لها.
إنه نداءٌ لكل أصحاب العقول النيرة، والقلوب المتفتحة، الذين يدركون أن الأمة قوية بمكوناتها، وعصية برجالها، ومكينة بمعتقداتها، أن يحكموا العقل، ويستجيبوا إلى الحكمة، فليس من العقل في شئ تجريم هذا القطاع الكبير من أبنائنا، ولا ينبغي التعامل معها بهذه العقلية الأمنية البوليسية، فهذا السلوك لا يؤدي إلى خير، ولا يقود إلى سلام، ولا ينفع الأمة، ولا يخدم الشعوب، ولا يحقق الأمن ولا السلامة، بل إن هذه السياسات الخاطئة، ستقود بالضرورة إلى نشوء حركاتٍ انعزاليةٍ متطرفة، موغلة في التشدد والانغلاق، تفكر في الثأر، وتسعى للانتقام، ليس فقط بسبب الإجراءات التي تتخذ بحقهم، بل لهول ما يواجهون، ولعظم ما يقاسون من بطش السلطات، وعسف الأجهزة الأمنية.
لو صح الوصف بأن ما تتعرض له حركة الإخوان المسلمين اليوم، أنه خريفٌ بالنسبة لهم، فإنه بالضرورة خريفٌ على كل العرب، وسيسقط الخريف كل الأوراق، ولن يستثنِ من طبيعته أحداً، فما يصيب حركة الإخوان، وهم قطاعٌ كبيرٌ من الأمة، ينتشرون في كل ربوع الأرض، فإنه يصيب العرب جميعاً ويضعفهم، ويفت في عضدهم، ويزيد في تقسيمهم، ويضاعف في تمزقهم، ويعمق أزمتهم، ويعرض المستقبل العربي إلى الضياع من جديد، والتيه لسنواتٍ أخرى كثيرة.
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected] بيروت في 13/3/2014