أقدمت لجنة المطبوعات في معرض الرياض الدولي للكتاب على سحب جميع أعمال الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل ، عاشق فلسطين وبلبلها الغريد ، محمود درويش ، من جناح دار" الريس " وإيقاف بيعها بعد اعتراض عدد من الشباب المحتسبين على ما وصفوه بعبارات كفرية في ثنايا نصوصه ، واعتبارها من مصنفات ما يسمى "الإلحاد الفكري " ..!
ومن المفارقات أن يأتي هذا المنع في ذكرى ميلاد شاعر الأرض والوطن والثورة والإنسان ، ونبي الغضب والرفض والتراب الفلسطيني محمود درويش ، التي تصادف مع تفتح اللوز في آذار .
إن منع أعمال درويش يمس بحرية الفكر والتعبير والإبداع ، وهي خطوة ظلامية قمعية تشكل تقليصاً لهامش الحرية ، وتعيد إلى أذهاننا عصور الإظلام الشديدة في التاريخ العربي الإسلامي وحرق كتب الفيلسوف القرطبي ابن رشد ، وتذكرنا بمحاكم التفتيش وممارسات الكبت والقمع ضد العلم والتقدم وثقافة الإصلاح والتنوير والعقل ومحاكمات المفكرين والعلماء واتهامهم بالهرطقة .
لا جدال أن المنع هي حالة وظاهرة قائمة في المجتمعات الثقافية ، ومسلسل مصادرة الكتب وروائع الفكر والأدب لم يصل إلى نهايته ، وبين حين وآخر تفاجأ الأوساط الأدبية والثقافية بمصادرة أو منع كتاب تنويري أو رواية ذات بعد عقلاني وتوجه تنويري تقدمي . ولم يتوقف الأمر على المصادرة كما حدث مع كتاب "الشعر الجاهلي" لعميد الأدب العربي طه حسين ، ورواية الكاتب السوري حيدر حيدر "وليمة لأعشاب البحر " والأعمال الكاملة للشاعر إبراهيم نصراللـه وديوان "شجري أعلى أوراق" للشاعر الاردني موسى حوامدة وسواها الكثير ، بل وصل الأمر إلى حد إحراق الكتب كما فعل الناشر المصري المعروف محمد مدبولي مع كتب الطبيبة المصرية د. نوال السعداوي .
لا يمكن قتل الأفكار وحجب الأشعار بالقمع ، ولا تستطيع أي مؤسسة رقابية المساس بحرية الفكر ، ومصادرة حق الإنسان الطبيعي في التفكير ، وتحويل مخزونه العقلي إلى مخزون ورقي في متناول بين أيدي الناس . فالكبت والمنع لا يمكن أن يصادر الرأي والموقف ويغتال الإبداع الراقي الأصيل والحقيقي ، بل يزيده قوة وعنفواناً وانتشاراً واسعاً .
إننا أمام سابقة خطيرة وعودة حقيقية لمحاكم التفتيش ، وهذا بالضبط ما يجب أن يقلقنا ، وعلينا كمبدعين ومفكرين ومثقفين رفض الوصاية التي تمارس على عقولنا وأذهاننا باسم الدين والمحرّم . ومع استنكارنا وإدانتنا الشديدة لقرار منع أعمال درويش في معرض الكتاب في الرياض ورفضنا له ، والذي يلقى موجة من الاستنكار والغضب في الوسط الثقافي والشعبي العربي ، فإن المثقفين مطالبون بالتصدي ومواجهة جميع أنواع وأشكال الحجب والمصادرة بكل الطرق والوسائل ، ويجب أن تلغى جميع أشكال الرقابة على الفكر والأدب والتعبير ، والرد على الفكر بالفكر ، والبرهان بالبرهان ، وليس بالمصادرة والسحب والمنع ، فكرامة الإنسان هي في حرية فكره وموقفه ، وكفى تكميماً للأفواه وتسيداً لأفكار الجهل والظلام والتكفير . إن هذه الممارسات هي اهانة لثقافتنا ورموزها ، وتكرس إفلاسنا الثقافي والحضاري في عالم لا تنهض فيه المجتمعات إلا بالحرية والديمقراطية ، وإن الإصرار على فرض الرقابة المستبدة لا يمنحنا سوى المزيد من التخلف المعرفي والاجتماعي .
وإذا كانوا منعوا وسحبوا أعمال وروائع درويش من أجنحة المعرض ، فلا يمكنهم محاصرة مصادرة صوت نقي وروح صافية وإبداع ثوري كصوته وروحه وقصيدته ، وسيبقى درويش الشاعر المضيء ، وزارع الأمل والتفاؤل الثوري في قلوب المقاتلين المنافحين والمدافعين عن قضايا الوطن والحرية والعروبة والإنسان الفلسطيني ، وسنظل نردد ونهتف معه :
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسمائكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا ، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة .