عند نشر هذا المقال يكون اللقاء المنتظر بين أوباما وأبو مازن قد عقد، وربما تكون نتائجه قد ظهرت. آمل وأعمل وأدعو الله أن يصمد أبو مازن في وجه الضغوط الأميركيّة التي تعهد أوباما لنتنياهو، في لقائهما الأخير، بممارستها على أبو مازن، لكي يدفعه لقبول "اتفاق الإطار" الذي بلوره كيري ومساعدوه طوال الأشهر الأخيرة، أو على الأقل إقناعه بتمديد المفاوضات إلى نهاية العام بهدف التوصل إلى اتفاق سلام.
تأسيسًا على ما تقدم، فإن مقياس صمود أبو مازن ليس رفضه إطار كيري فقط، فكما قال لي مسوؤل فلسطيني، لو عاد مصطفى دودين من قبره لا يمكن أن يقبل هذا الإطار، لأنه يهدف إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة تصفيةً جذريّةً؛ وإنما رفضه أيضًا تمديد المفاوضات من دون أي التزام إسرائيلي.
إن تجربة استئناف المفاوضات بلا شروط فلسطينيّة، أي وفقًا للشروط الإسرائيليّة ممكنة في ضوء تصريحات مسؤول مجهول تدلل أن هناك مخاطر من أن تمدد المفاوضات مقابل ترضيات، لأن هناك سابقة لا تزال طريّة بالأذهان وافق فيها الرئيس على استئناف المفاوضات مقابل إطلاق سراح أسرى ما قبل أوسلو وتجميد التوجه إلى الأمم المتحدة، وحتى من دون تجميد الاستيطان.
وصل أبو مازن إلى واشنطن والوضع الفلسطيني سيئ: سواء على صعيد استمرار وتعميق الانقسام وتفجر الخلافات الفتحاويّة – الفتحاويّة، كما ظهر في خطاب الرئيس أمام المجلس الثوري ورد دحلان عليه وتداعيات كل ذلك؛ أو على صعيد المعارضة الفلسطينيّة لاستئناف المفاوضات في نهاية تموز الماضي، ولاحتمال تمديدها بعد نهاية نيسان القادم؛ أو على صعيد الأزمة الاقتصاديّة الماليّة في الضفة الغربيّة وقطاع غزة، مع اختلاف الحدة، خصوصًا في ظل تدهور العلاقات المصريّة - الحمساويّة بصورة انعكست سلبيًا على مختلف جوانب الوضع الفلسطيني، وعلى رأسها الجهود الرامية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.
حجة المنادين بتمديد المفاوضات أن الرفض سيحمّل الفلسطينيين مسؤوليّة فشل الجهود الأميركيّة في ظل وضع عربي أقل ما يقال عنه إنه غير مناسب للفلسطينيين، وهذا سيفتح الباب لقطع المساعدات الأميركيّة، وربما إلى إغلاق مكتب المنظمة في واشنطن، وإخراج المنظمة من دائرة اللاعبين السياسيين في المنطقة، وربما سيؤدي إلى وقف أو تقليل مساعدات أوروبيّة ودوليّة أخرى؛ الأمر الذي سيفتح الباب لمزيد من انقسام، بل وتشظي، الحركة الفلسطينيّة، كما سيفتح الباب لانسحاب الإدارة الأميركيّة من المساعي المبذولة لحل الصراع - عفوًا النزاع - وإطلاق يد إسرائيل ضد الفلسطينيين ووقف تحويل العائدات الجمركيّة للسلطة.
ويتابع أصحاب وجهة النظر هذه أن الاستيطان مستمر بوجود المفاوضات أو بعدم وجودها، وأن لا خيارات حقيقيّة وعمليّة أمام الفلسطينيين سوى استمرار المفاوضات، لأن التوجه إلى الأمم المتحدة، والمقاطعة، والمقاومة الشعبيّة، وإنهاء الانقسام، والرهان على التضامن العربي والدولي، وعلى استعادة الوحدة خيارات لفظيّة ليست عمليّة، وليس لها فرصة حقيقيّة بتغيير موازين القوى، إذ إن أهميتها تنحصر في كونها ملحقة بخيار المفاوضات الذي يجب أن يكون الخيار الأساسي إن لم يكن الوحيد.
لا يرى أنصار المفاوضات إلى الأبد بأن هذا الخيار جرِّب وأوصلنا إلى الكارثة، وليس إلى الدولة كما بشروا، وأن هناك فرقًا هائلًا بين استمرار الاستيطان بغطاء من القيادة الفلسطينيّة من خلال مشاركتها في عمليّة سلام زائفة، توحي للعالم بأن السلام قاب قوسين أو أدنى؛ وبين استيطان في ظل عودة القضيّة إلى طبيعتها الأصليّة كقضيّة تحرر وطني وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال الوطني، وما يستدعيه ذلك من جمع كل عناصر القوة الفلسطينيّة والعربيّة والإسلاميّة والدوليّة للضغط على إسرائيل ومن يدعمها، بحيث يصبح الاحتلال مكلفًا لهم، في مرحلة بدأ فيها تراجع الدور الأميركي في المنطقة والعالم وبرزت أدوار أخرى في الإقليم والعالم، من ضمنها روسيا والصين وإيران ودول أميركا اللاتينيّة.
في مرحلة المفاوضات فقط وإلى الأبد ومن أجل المفاوضات، تم تمكين العرب والأوروبيين وغالبيّة مناصري القضيّة الفلسطينيّة من تبرير تنصلهم، بحجة أن القيادة الفلسطينيّة وضعت كل بيضها في السلة الأميركيّة، وتمترست وراء القرار الفلسطيني المستقل ذاهبة فيه إلى حد إعفاء العرب من مسؤولياتهم، ولم تستخدم العامل الدولي والمزايا السياسيّة والقانونيّة والأخلاقيّة التي يتيحها لها القانون الدولي وعشرات القرارات المناصرة للقضيّة الفلسطينيّة، على رأسها الفتوى القانونيّة لمحكمة لاهاي، التي تتيح عددًا من الالتزامات الملزمة للدول الأعضاء في الأمم المتحدة وليست استشاريّة، كما يروِّجُ الكثيرُ من المسؤولين الفلسطينيين عن جهل أو لتبرير التخلي عن الإطار الدولي وتحميل المجتمع الدولي لمسؤولياتهم إزاء قضيّة خلقها المجتمع الدولي وتنصل منها من دون ثمن، في ظل لهاث أصحاب القضيّة وراء سراب الحل عن طريق المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة بعيدًا عن المرجعيّة الدوليّة.
وحتى تظهر خطورة تمديد المفاوضات مقابل إطلاق سراح دفعات جديدة، كلهم أو معظمهم من الأسرى، من كبار السن والمرضى والأطفال والذين أنهوا معظم محكوميتهم؛ لا بد أن نلاحظ أن ما حصل منذ عشيّة استئناف المفاوضات في أواخر تموز الماضي وحتى الآن ما يأتي:
تراجع الموقف الأميركي كما لم يحدث من قبل، إذ أصبحت الإدارة الأميركيّة تقترب من المواقف الأكثر يمينيّة في إسرائيل، بالنسبة للدولة اليهوديّة والقدس والاستيطان واللاجئين، واستمرار تواجد القوات الإسرائيليّة على الحدود والمعابر، وفي بعض النقاط الحيويّة حتى بعد قيام الدولة العتيدة، وما أدى إليك ذلك من تغييب العامل الدولي، حتى على مستوى اللجنة الرباعيّة الدوليّة "شاهد الزور". وهذا يعني أن أي مفاوضات لاحقة ستكون على أساس مرجعيّة تقل كثيرًا عن المرجعيات الدوليّة وعن مرجعيات المفاوضات السابقة.
تراجع الموقف العربي حتى عن سقف مبادرة السلام العربيّة الهابط أصلًا، من خلال زيادة تدخله السلبي في الملف الفلسطيني عبر موافقة "لجنة المتابعة العربيّة" على مبدأ "تبادل الأراضي" وعلى استئناف المفاوضات وفق الشروط الإسرائيليّة، حتى قبل الموافقة الفلسطينيّة التي أصبحت تتغطى بالموافقة العربيّة بعد أن كانت تستنجد بالموقف العربي للتخلص من الضغوط الأميركيّة وغير الأميركيّة.
لقد وصل الأمر ببعض البلدان العربيّة إلى حد الموافقة على مطلب الاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة، وببعض البلدان الأخرى إلى حد الاستعداد للموافقة على هذا المطلب إذا وافق عليه الفلسطينيون، ما يستدعي المزيد من الضغوط الأميركيّة والإسرائيليّة على الفلسطينيين. صحيح إن التراجع في الموقف العربي يتذرع بالموقف الفلسطيني، وإن أهل مكة أدرى بشعابها، ولكن هذا لا يعفي العرب من مسؤولياتهم، فالقضيّة الفلسطينيّة قضيّة عربيّة وتمس الأمن القومي العربي.
لقد شهدنا بعد استئناف المفاوضات إصدار عطاءات ببناء 10 آلاف وحدة استيطانيّة، وتكثيف الاعتداءات من جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين، خصوصًا في القدس والأقصى، والمزيد من التنازلات الفلسطينيّة تجلت أولا بإعادة التأكيد على تنازلات قدمت سابقًا ولم تؤد إلى اتفاقات، حيث لا بد من العودة إلى المواقف الأصليّة الابتدائيّة. فإذا كانت كل حكومة إسرائيليّة ترفض استئناف المفاوضات من النقطة التي انتهت إليها المفاوضات السابقة، فلماذا لا يحذو الفلسطينيون حذوهم، بحيث يسحبون تنازلاتهم السابقة حول "حل متفق عليه لقضيّة اللاجئين"، ومبدأ "تبادل الأراضي"، الذي يفتح الطريق لإضفاء الشرعيّة على الاستعمار الاستيطاني، وضم الكتل الاستيطانيّة، وتقسيم القدس الشرقيّة بين الأحياء العربيّة والأحياء اليهوديّة وفق معايير كلينتون؟
بدلًا من سحب هذه المواقف من التداول استمعنا أن الرئيس لا يريد العودة إلى صفد ولا يريد أن يغرق إسرائيل بملايين اللاجئين، وأن المطلوب عودة رمزيّة للاجئين إلى أراضيهم وديارهم، أو تخييرهم بين عدة خيارات، من ضمنها خيار العودة إلى إسرائيل إذا وافقت إسرائيل على هذه العودة! وسيمنع اندلاع أي انتفاضة، خصوصًا مسلحة، طالما بقي رئيسًا.
واستمعنا إلى أقوال رسميّة فلسطينيّة على أعلى مستوى أن الدولة القادمة ستكون منزوعة السلاح، وأنها توافق على وجود قوات من الناتو بقيادة أميركيّة أو حتى قوات أميركيّة صرفة ترابط في جميع الأراضي التي ستقوم عليها الدولة العتيدة، واستمعنا إلى موافقة فلسطينيّة مجانيّة على أن يتم الانسحاب الإسرائيلي خلال مدة ثلاث سنوات ثم خمس سنوات. في المقابل لم نر جديدًا إسرائيليًا، بل تصرفت الحكومة الإسرائيليّة مثل المقبرة التي كلما دفن فيها المزيد من الموتى هتفت هل من مزيد؟
وفي ظل المفاوضات تم تجميد التحرك إلى الأمم المتحدة وتجاهل قطاع غزة، ولم يتحرك ملف المصالحة، لأن أميركا وإسرائيل ضد المصالحة ويعتبرانها أنها اختيار "للإرهاب بدلًا من السلام". صحيح إن مراهنة "حماس" على صعود جماعة الإخوان المسلمين وبقايا الرهان على عودتهم إلى مصر تتحمل قسطها لعدم تحقيق المصالحة، إلا أن الرهان على المفاوضات يتحمل قسطه أيضًا.