بالأمس 22 مارس اغتال جيش الاحتلال الإسرائيلي ثلاثة مقاومين في جنين ، ولا يمر يوم إلا ونسمع عن اغتيال أو اعتقال مواطنين سواء من قلب مدينة رام الله حيث مقر السلطة الفلسطينية أو من أية قرية أو مدينة ، وتستمر الجريمة الكبرى التي في نطاقها ومن تداعياتها يحدث كل ذلك وهو الاحتلال واستمرار الاستيطان والتهويد والتدنيس للمقدسات ،كما تستمر سياسة الاغتيالات والاعتداءات والحصار المدمر لأهلنا في قطاع غزة – في مقال تم نشره قبل أيام تحدث مدير عمليات الأونروا في قطاع غزة روبرت تيرنر عن الوضع المأساوي في القطاع وخصوصا عن الحالة الاقتصادية حيث بلغ معدل البطالة 41% - ، ناهيك أن المفاوضات لم تسفر عن شيء . في جميع الحالات لا نسمع إلا تنديدات من الفصائل تتفاوت حدتها بمدى قربها أو بعدها من السلطة الفلسطينية أو حسب الانتماء الحزبي للشخص المُستهدف، أما خارج فلسطين المحتلة فنادرا ما يتطرق الإعلام العربي وغيره لهذه الاعتداءات الإسرائيلية أو للمفاوضات وإن ذكرها فكخبر ثانوي في نهاية نشرة الأخبار .
الخطير في الأمر ليس موقف الأحزاب السياسية والحكومتين بل ضعف ردود الفعل الشعبية على هذه الجرائم الصهيونية وعلى التلاعب بمصير الشعب والقضية من خلال مبادرات تسوية مشبوهة،فالتحركات الشعبية محدودة العدد حيث لا تزيد عن عشرات أو مئات في أفضل الحالات،ومحدودة جغرافيا حيث تقتصر على مدينة دون أن تشمل كل أراضي السلطة،ومحدودة زمنيا حيث تستمر ساعة أو عدة ساعات ثم تنتهي كالحواجز الطيارة .هذه الحالة من عدم التفاعل الشعبي أو انسحاب الشعب من ساحة المواجهة حالة مستجدة على الشعب الفلسطيني الذي كان دوما في المقدمة والطليعة .
لم يصبح الشعب بهذه الحالة من السلبية والإحباط و الانسحاب من المشهد السياسي كفاعل رئيس إلا بعد قيام السلطة ، ثم تكرس الأمر بعد الانقسام والفصل بين غزة والضفة يونيو 2007 الذي أوجد سلطتين وحكومتين أضيفتا لسلطة الاحتلال . قبل ذلك كان الشعب يتحرك ويأخذ زمام الفعل من خلال الاشتباك المباشر مع إسرائيل مما تضطر معه القيادة الفلسطينية والأحزاب لمجاراة الشعب والارتقاء إلى مستواه النضالي ،بل كان الشعب يتحرك ليس فقط في مواجهة الاحتلال بل لإنقاذ القيادة في الأوقات العصيبة كما حدث بعد محاولات تهميش منظمة التحرير الفلسطينية في مؤتمر القمة العربية في عمان حيث تحرك الشعب في انتفاضته الأولى 1987 ليعلن للعالم أن منظمة التحرير الفلسطينية هي ممثله الشرعي والوحيد ، وتحرك الشعب بعد قمة كامب ديفيد الثانية 2000 دعما للرئيس أبو عمار ورفضا لتدنيس المسجد الأقصى ، وبينهما جرت انتفاضة النفق 1996 . صحيح أن البعض ركب موجة هذه الانتفاضات ووجهها على غير ما يجب وما يريد الشعب ،ولكن الشعب كان دائما حاضرا ومستعدا لتقديم التضحيات وتحمل المعاناة من أجل قضيته العادلة ودفاعا عن قيادته ما دامت قيادة وطنية قريبة للحس الشعبي ومتجاوبة مع مطالبه .
أين هو الشعب الفلسطيني ؟ أين ذهب شعب الجبارين؟ هل ما زال موجودا كحالة وطنية نضالية ؟ أم تبدد مع الانقسام والإحباط وتعدد المشاريع غير الوطنية والصراعات حتى داخل الأحزاب الوطنية نفسها ؟ هل تحول من شعب إلى جموع بشرية تتصارع من أجل البقاء ولقمة العيش والراتب والكوبونه وتنكة السولار أو البنزين وجرة الغاز ؟ ! وكيف يمكن لشعب تحت الاحتلال أن يكون غائبا عن ساحة المواجهة ؟ وكيف نستطيع أن نُقنع العالم أن إسرائيل تحتل فلسطين وشعبها إن لم يشعر العالم ويرى الشعب الفلسطيني مقاوِما ومتصارِعا مع الاحتلال ؟ كيف نقنع العالم أننا شعب تحت الاحتلال والعالم يرى نخب سياسية تتصارع على السلطة أكثر مما تتصارع مع الاحتلال ، ففيما الشعب مُغيب عن ساحة المواجهة والفعل ؟ .
أكثر من مرة سألني أصدقاء عرب وأجانب هذا السؤال أو الأسئلة ، يسالون دوما أين الشعب الفلسطيني الذي عهدناه في مقدمة الشعوب العربية بل شعوب العالم في عطائه ومبادراته النضالية وحيث كان القدوة لشعوب وحركات التحرر في العالم الثالث ؟ يسألون بألم وحسرة أين الشعب الفلسطيني الذي كنا نرسل لمخيماته وقواعده الفدائية في سوريا ولبنان والأردن أبناءنا ليتدربوا على السلاح ويتعلموا أبجديات الثورة والنضال ؟ أين الشعب الفلسطيني الذي كان أطفاله وشبابه يواجهون الدبابة بالحجر ويقتحم فدائيوه المستوطنات ؟ ولماذا لا يخرج الشعب الفلسطيني في ثورة أو مظاهرات حاشدة كما يجري في دول العالم بالرغم من أن وضع الشعب الفلسطيني أكثر سوءا من وضع بقية الشعوب ومبررات الثورة أكثر حضورا ؟.
لو كنا أنجزنا الدولة والاستقلال لقلنا لا حاجة للشعب الفلسطيني الثائر كما كان عليه وبالمواصفات السابقة،لان مرحلة الدولة تختلف عن مرحلة الثورة، ودور الشعب بالتالي سيختلف دون أن يختفي ، لأن مرحلة الجهاد الأكبر – بناء الدولة - تتطلب جهودا أعظم من مرحلة الجهاد الأصغر – العمل العسكري- ، ولكن المصيبة أنه تمت مصادرة وإعاقة واحتجاز الشعب قبل استكمال مرحلة التحرر الوطني مهمتها وقبل إنجاز الدولة الموعودة. لم تكن الإعاقة والاحتجاز من إسرائيل ،وما كانت إسرائيل تستطيع ذلك لان كل مواجهة معها تؤجج الحالة الوطنية وتوحد الشعب أكثر وأكثر، بل كانت الإعاقة والاحتجاز من النخب السياسية للسلطتين والحكومتين .
نعم أصبحت السلطتان والحكومتان تحتجزان الشعب الفلسطيني وتعيقان حركته ضد الاحتلال . لا يمكن لفلسطينيي قطاع غزة الدخول في مواجهة مع الاحتلال دون موافقة حركة حماس و حكومتها،وواقع الحال أن حركة حماس معنية بالتهدئة وتخشى من انهيار سلطتها إن اشتبك الشعب أو حركات المقاومة مع إسرائيل ، ولا يمكن لفلسطينيي الضفة الغربية أن يخوضوا مواجهة سلمية أو عسكرية ضد إسرائيل في الضفة دون موافقة السلطة هناك ،وواقع الحال أن السلطة لا تريد أية حالة مقاومة مع الاحتلال بل وُجِد التنسيق الأمني لمنع هكذا أعمال . أصبحت السلطتان ومنافعهما ومصالح نخبتهما أهم من الوطن وبات الدفاع عنهما له الأولوية على مقاومة الاحتلال، مع اختلاف محدود في الموقف من المقاومة في الحالتين .
وكنوع من التضليل للشعب وحتى تقول هذه النخب أنها ما زالت مع الشعب وملتزمة بالثوابت الوطنية فإنها توظف خطابا مدججا بمقاومات لفظية وشعاراتية باتت مضحكة وممجوجة ، كأن يعلن مسئول كبير في المنظمة أو السلطة أو في حركة فتح : إن الاستيطان يهدد عملية السلام وكأنه اكتشف شيئا خطيرا وجديدا ، أو أن القيادة متمسكة بالثوابت والحقوق الوطنية ولن تفرط فيهما ! وكأن القيادات توجد من أجل أن تتمسك بالحقوق فقط وليس من أجل استعادة الحقوق !، أو يعلن آخر وفي مؤتمر صحفي : إن إسرائيل لا تريد السلام وإن المفاوضات الحالية آخر فرصة أمام عملية السلام متجاهلا أو ناسيا أن خطاب الفرصة الأخيرة سمعناه مائة مرة طوال عشرين سنة من المفاوضات . مع تغير في المفردات دون تغيير في الهدف والمنطلق يتحدث قادة حماس ، كأن يهدد مسئول في حركة حماس أن الحركة ستلقن العدو درسا لن ينساه إن اعتدى على قطاع غزة ! وكأن حركة حماس حققت أهدافها بالسيطرة على قطاع غزة وكل ما هو مطلوب منها فقط الحفاظ على سلطتها في القطاع وحماية قطاع غزة من العدوان، وكأن ما يجري في الضفة والقدس وبقية فلسطين ليس عدوانا على الشعب الفلسطيني ! .
وفي هذا السياق نفهم لماذا إسرائيل مستريحة لموقف النخب السياسية الفلسطينية الحاكمة المتخوفة من الانتفاضة والمقاومة المسلحة وحتى السلمية والتشكيك بجدواها ، ونفهم لماذا تشكك النخب الحاكمة بقدرات الشعب على المقاومة ويعتبرون أن الانتفاضة أو أي حراك شعبي ولو سلمي في الضفة أو غزة إن اندلع سيتحول لفوضى وسيخدم إسرائيل وإلى غير ذلك من التبريرات التي تُحقر من دور وقيمة الشعب وترهن مصير الشعب بالنخبة الحاكمة ونهجها السياسي أو بالمتغيرات الخارجية .
لا نعتقد أن النخبة السياسية تخشى على الشعب من تداعيات الانتفاضة والمقاومة ، فالشعب لم يعد لديه ما يخسره لأنه بعد قيام السلطة ثم السلطتين استمر يخضع للاحتلال كما أن حالة الشعب الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية لم تتحسن بل ازدادت سوءا ، بل الخشية أن تفقد النخبة مصالحها من شركات بملايين الدولارات وامتيازات وأراضي وسيولة نقدية ومواقع لأبنائها الذين يتبوءون مواقع مرموقة داخل مؤسسات السلطتين والحكومتين أو في السفارات والممثليات الخارجية ، هذه النخب تعرف أن ضمان استمرارها الوحيد هو استمرار مهادنة العدو وعدم إغضابه وليتم ذلك يجب حجز الشعب وإعاقة فعله الثوري .
ولكن يجب الحذر وعدم الذهاب بعيدا في وضع مراهنات أو بناء استراتيجيات لهذا الطرف أو ذاك انطلاقا من الحالة الراهنة للشعب الفلسطيني لأنها حالة عابرة ومؤقتة وقد مر الشعب خلال تاريخه الذي يمتد لأكثر من أربعة آلاف سنة لحالات مشابهة من القهر أو التغييب القسري وكان دائما ينهض من تحت الرماد كطائر الفينيق كما قال الزعيم الراحل أبو عمار،وإن كانت بعض النخب الفلسطينية لا تعلم ذلك فالإسرائيليون يعلمون ذلك جيدا وهم في حالة استعداد وتأهب ليوم سينفجر في وجههم شعب فلسطيني تعداده 12 مليون فلسطيني، نصفه يطالب بحق العودة ونصفه يطالب بالاستقلال ، وليس هذا اليوم ببعيد.