"تيتي تيتي مثل ما رحتي جيتي"، بهذه العبارة همس الرئيس أبو مازن في أذن بعض القادة الذين جاؤوا لاستقباله بعد عودته من واشنطن. نعم، هذا وصف دقيق لنتائج الزيارة واللقاءات التي عقدها الوفد الفلسطيني مع أركان الإدارة الأميركيّة، وكانت ذروتها اللقاء مع الرئيس الأميركي باراك أوباما، الذي لم يكن لقاءً حاسمًا ولا مميزًا، ولم يؤد إلى أي شيء سوى الاتفاق على استمرار الجهود حتى نهاية نيسان القادم، وضمان إطلاق الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل اتفاق أوسلو، المقرر أن تتم في التاسع والعشرين من آذار الجاري، التي هدد وزراء إسرائيليون بأنها لن تتم على الإطلاق، وبعضهم ربط إتمامها بالتزام أبو مازن بتمديد المفاوضات عامًا آخر على الأقل.
لماذا كانت القمة الفلسطينيّة - الأميركيّة باهتة؟ السبب ببساطة، كما قال أحد الفلسطينيين الذي كان موجودًا في واشنطن أثناء عقدها: أن أوباما كان يفكر ببوتين وما يجري في أوكرانيا وتداعياته على أوروبا والعالم كله، وبالملف النووي الإيراني والعلاقات الأميركيّة الروسيّة، بينما كان أبو مازن يفكر بدحلان وتداعيات خطاب الرئيس أمام المجلس الثوري ورد دحلان عليه عبر فضائيّة دريم المصريّة، ما فهم على أنه إشارة غضب مصريّة على الرئيس الفلسطيني، وتعكس نوعًا من التبني لدحلان، لا يصل بالضرورة إلى حد أن مصر تدعم دحلان لخلافة أبو مازن، وإنما إشارة إلى عودة دحلان كلاعب له بعض الأهميّة، ممتطيًا صهوة التطورات الإقليميّة.
إن الخطاب والرد عليه أعاد دحلان إلى حجمه الطبيعي، وسيقطع الطريق على توليه دورًا مستقبليًا يناسب طموحه، ولكن ما حدث أساء أيضًا إساءة بالغة للرئيس، وألحق أضرارًا فادحة بمصداقيّة المؤسسة والقيادة الفلسطينيّة؛ ما يستدعي تحركًا نوعيًا مختلفًا يتناسب مع مستوى المخاطر والتحديات، ويسعى لمعالجة سياسيّة للأخطاء وقانونيّة وقضائيّة للجرائم بحق المواطن والوطن والقضيّة.
لا يعني ما سبق أن أوباما لم يطرح "اتفاق الإطار" الذي أعدّه كيري على أبو مازن، بل طرحه وطلب موافقة أبو مازن عليه، ولكن لم يطرحه بشكل رسمي ونهائي على طريقة "خذه أو اتركه"، بل طرحه من دون إصرار على قبوله، لأن الرئيس الأميركي يدرك الهوة الواسعة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي، ولا يرغب حاليًا بالضغط على أبو مازن، ولا يرغب حاليًا ومستقبلًا بالضغط على إسرائيل.
يخشى أوباما إذا ضغط على أبو مازن لدفعه لقبول الاتفاق بأنه سيواجه باحتمال الرفض، وهذا سيظهر أوباما في موقف ضعف، وهذا آخر ما يحتاجه بعد اتهامه بإظهار علامات ضعف عديدة في تعامله مع الملف السوري، وغيره من الملفات.
كما أن قبول أبو مازن للاتفاق سيضعف موقفه الضعيف أصلًا جرّاء المعارضة الفلسطينيّة الواسعة للمفاوضات، وعدم إحرازها أيَّ تقدم، وتوظيفها للتغطية على إصدار عطاءات لأكثر من 11 ألف وحدة استيطانيّة جديدة، وتعميق الاحتلال، وتكثيف الاعتداءات والاغتيالات وهدم المنازل، ومجمل الإجراءات العنصريّة في الضفة الغربيّة المحتلة، وخصوصًا في القدس، ومواصلة الحصار والعدوان على قطاع غزة.
لا بد من التوقف أمام الموقف الأميركي الذي سبق وأن أعلنه كيري عشيّة القمة، وهو ما يتعلق بالموقف الفلسطيني من الاعتراف بالدولة اليهوديّة، حيث بدأت الإدارة الأميركيّة تتفهم مسألة عدم طرحها كشرط ضمن شروط "اتفاق الإطار" وتمديد المفاوضات، وإنما تصرّ عليه كشرط لاتفاق السلام حتى يتمكن الفلسطينيون من قبوله عندما يعرفون ماذا سيحصلون عليه في المقابل. فيهوديّة إسرائيل كما قال كيري محسومة منذ عشرات السنين ومتضمنة عشرات المرات في قرار التقسيم 194، الذي قامت إسرائيل بناء عليه.
أوباما خَشِيَ من الفشل، لذلك لم يطرح "اتفاق الإطار" بشكل رسمي، أما مسألة رفض نتنياهو له فهي مسألة بحاجة لإعادة نظر، لأن هناك من المؤشرات ما يكفي على أن نتنياهو مستعد لقبول "اتفاق الإطار" مع تحفظ على بند أو أكثر، لإدراكه مزاياه الكبيرة لإسرائيل، وأنه يلبي جوهر المطالب الإسرائيليّة، ولكونه يخشى من احتمال انهيار المفاوضات ولجوء الفلسطينيين إلى المقاومة، والأمم المتحدة، ووضع ثقلهم وراء حملة مقاطعة إسرائيل وملاحقتها على احتلالها ومجازرها وجرائمها المستمرة، ومن أن يؤدي إلى فتح الطريق لإنهاء الانقسام الفلسطيني واستعادة الوحدة الوطنيّة على أساس برنامج مناهض للاحتلال، وليس على أساس مصالحة تأتي كجزء من عمليّة سياسيّة تخدم إسرائيل، ومن مقوماتها الرئيسة التزام الفلسطينيين جميعًا بشروط اللجنة الرباعيّة الظالمة.
تأسيسًا على ما سبق، أعتقد أن نتنياهو يُمَثِّل أنه يرفض "اتفاق الإطار" أكثر مما يرفضه فعلًا؛ حتى يحسنه أكثر لصالح إسرائيل، ولكي يدفع أبو مازن لقبوله من دون أن يطالب بتعديله، ولامتصاص ردة فعل بعض الأحزاب الإسرائيليّة والعناصر المتطرفة في حزبه الليكود، التي تعارض "اتفاق الإطار"، وتهدد بالانسحاب من الحكومة ومن الليكود إذا لم تستطع طرد نتنياهو. هذا مع العلم أن نتنياهو لديه شبكة أمان تتمثل بأن معظم أحزاب المعارضة يمكن أن تصوت لصالح أي اتفاق.
أدى الخوف من رفض "اتفاق الإطار" أو قبوله بتحفظات، مما يفرغه من مضمونه وتأثيره؛ إلى الانتقال الأميركي إلى البحث عن شروط تمديد المفاوضات.
إذا انتقلنا إلى مسألة تمديد المفاوضات، سنجد أن هاجس الرئيس أبو مازن هو تجنب تحميله المسؤوليّة عن فشل المفاوضات ومواجهة مصير سلفه ياسر عرفات، وخشيته من عواقب انهيار المفاوضات من فتح أبواب المواجهة الفلسطينيّة - الإسرائيليّة على مصاريعها، وما يمكن أن يؤدي إليه من حل أو انهيار السلطة، واندلاع انتفاضة لا يعرف أحد حجمها وأشكالها ومن ستستهدف: الاحتلال فقط، أم ستطال السلطة ومختلف مكونات النظام الفلسطيني داخل المنظمة وخارجها، فالجميع مأزوم، والإستراتيجيات المعتمدة وصلت لأسباب مختلفة إلى طريق مسدود.
الخشية من تحمل المسؤوليّة عن فشل المفاوضات ومن عواقب هذا الفشل تدفع أبو مازن لفتح الطريق لتمديد المفاوضات. فبعد الرفض المطلق لتمديدها لدقيقة واحدة بعد 29 نيسان القادم؛ تحدث أبو مازن عن الموافقة على التمديد: إذا حدثت تطورات واعدة في المفاوضات من دون تحديدها؛ أو إذا أثبتت الحكومة الإسرائيليّة جديّة في المفاوضات؛ أو إذا وافقت على تجميد الاستيطان وإطلاق دفعات جديدة من الأسرى، من ضمنهم مروان البرغوثي وأحمد سعدات وفؤاد الشوبكي.
كل متابع لما يجري في إسرائيل يعرف أن الحكومة الإسرائيليّة لا يمكنها الموافقة على تجميد الاستيطان، حتى ضمن مسرحيّة التجميد الجزئي والمؤقت الذي لا يطال القدس والكتل الاستيطانيّة والعطاءات الصادرة، وهي بالآلاف، وتحتاج إلى سنوات حتى يستكمل بناؤها. إن قبول أبو مازن لاستئناف المفاوضات في نهاية تموز الماضي من دون شروط ولا أي تجميد للاستيطان، يشجع إسرائيل على رفض التجميد، بدليل أنه أدى إلى زيادة معدلات الاستيطان أثناء المفاوضات بنسبة 123% وفقًا لدائرة الإحصاء الإسرائيليّة.
إذًا، تبقى مسألة إطلاق سراح دفعات جديدة من الأسرى، من ضمنهم قادة. فضلًا عن الخطأ الفادح بجعل قضيّة إطلاق سراح الأسرى قضيّة تفاوضيّة، ما يعرض المفاوض الفلسطيني والأسرى، خصوصًا القادة، للابتزاز. فمقايضة الأسرى بالقضايا والحقوق التي ناضلوا وأسروا من أجلها مسألة ضارة جدًا.
إن المطلوب رفض استئناف المفاوضات من دون مرجعيّة واضحة ملزمة، وتستند إلى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، بوصفها تتضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينيّة، على أن تكون في إطار الأمم المتحدة، وضمن مؤتمر دولي مستمر وكامل الصلاحيات، وبمشاركة الدول المؤثرة بالقرار الدولي والمتأثرة من استمرار الصراع وما يمكن أن يقود إليه من نتائج كارثيّة على المنطقة والعالم.
إن هذه المقاربة الجديدة تحتاج إلى نضال متنوع لتغيير موازين القوى، ولا تستبعد العمل السياسي بكل أشكاله، بما فيه المفاوضات في الوقت المناسب، وتضع العالم أمام مسؤولياته بدلًا من خداعه من خلال الإيحاء باستمرار عمليّة سياسيّة زائفة تسمى "عمليّة سلام". كما أن هذه المقاربة تفتح الباب لجمع واستنفار جميع طاقات وإبداعات الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده وبمختلف قواه في مجرى الكفاح لتحقيق أهدافه وحقوقه الوطنيّة.