أبى الشهيدُ حمزةُ جمال أبو الهيجا إلا أن يثبت قاعدة ربانية، وتقليداً جهادياً نؤمن به ونصدقه، فقد زار قبل يومٍ من استشهاده، قبر صديقٍ له، لا ينتمي إلى مجموعته، ولا ينتسب إلى حركته، بل كان صديقه الشهيد نافع السعدي ينتمي إلى حركة الجهاد الإسلامي، لكنه كان قد حمل معه البندقية، وقاتل إلى جانبه، وتعرض للاعتقال في سجون سجون السلطة الفلسطينية معه، ثم غدا مثله مطارداً لسلطات الاحتلال الإسرائيلي.
إنه نافع السعدي الذي سبق إلى الشهادة وهو يدافع عن صديقه، ويصد المجموعات الإسرائيلية التي كانت تستهدف رفيقه حمزة أبو الهيجا وتريد قتله، ولكن رافع رغم الخطر الذي يلاحقه، انبرى وغيره لصدهم، وحاول منعهم من الوصول إلى صديقه، فنجح في محاولته، ولكنه سقط شهيداً، فخرج مخيم جنين بكل أهله، على اختلاف أطيافهم، يطارد الإسرائيليين ويلاحقهم، فنجا أبو الهيجا، ولم تطاله يدُ الغدر الإسرائيلية.
ولكن حمزة القسامي، وهو الشاب اليافع، الذي لم يتم بعد عامه الثاني والعشرين، أحب نافع الجهادي في سرايا القدس، ابن مخيم جنين، وأكد معه أننا شعبٌ واحد، وأن قضيتنا واحدة، وأن عدونا الإسرائيلي يستهدفنا جميعاً، ولا يفرق بيننا، ولا يميز بين انتماءاتنا، ولا تهمه تنظيماتنا، إنما الذي يغريه دمنا، والذي يشجعه استهدافنا، والنيل من حياتنا.
أصاب حمزةَ الحزنُ الشهيد الشديد لاستشهاد رفيقه، ورحيل صديقه، وهو الذي ضحى بحياته من أجله، وأثبت له بدمه أنهما حالة جهادية واحدة، وفعلٌ مقاومٌ مشترك، يحركهم الانتماءُ إلى الوطن، ويدفعهم الإخلاصُ وحبُ الشعب، والأملُ في تحرير الأرض واستعادةُ الحق، وتطهيرُ القدس والمقدسات.
خرج حمزة واخوانه في كتائب القسام، إلى جانب ثلة من المقاتلين والمقاومين من مختلف السرايا والكتائب المسلحة، وشاركوا بتحدي لا خوف فيه من الاستهداف في جنازة نافع السعدي، وشيعوه ببنادقهم، وزينوا المسيرة بثيابهم العسكرية، وراياتهم الجهادية، في سابقةٍ في مخيم جنين خطيرة، أقضت مضاجع العدو وأخافته، وأشعرته بأنه قد دخل بجريمته جحر الدبابير، وأن عليه بعدها أن يتحمل نتائج فعلته، وتبعات جريمته.
ولكن حمزة الذي كان يشعر بتعقب السلطة لحركته، ومطاردة العدو له، لم يكن يبالي بالموت، إذ هو بالنسبة له شهادة، وهو يتوقعها في كل ساعة، ويتحسسها عند كل حدث، وقد تهيأ لها واستعد، ولكن أن يسبقه أخٌ له بينما كان يدافع عنه، فقد أحزنه ذلك وآلمه، فأسرها في نفسه حباً له، وشوقاً إليه، ووفاءً لأهدافه، وأحس أنه عما قريبٌ سيلحق به، وسيكون إلى جانبه، فكان أن زاره في قبره عشية اقتحام الجيش الإسرائيلي لمخيم جنين واغتياله، وكأنه كان يعرف أنه سيلحق بعد ساعاتٍ بصديقه، وسيجتمع به، وسيكون إلى جانبه، وسيرقد إلى جواره، فذهب إلى المقبرة وكأنه يخبره أو يستأذنه، ليستعد له ويكون في استقباله.
إنه تأكيدٌ من رب العزة لا شك فيه، أن "الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدو إلا المتقين" وكأنها حقيقةٌ أو قانون، يلتزم بها الإنسان، ويطبقها الناس، ويتبعها المتشابهون، ويمضي عليها المتعاهدون، ويحافظ على سنتها أصحاب الدرب الواحد، وحملة الأهداف المشتركة، وقد بتنا نؤمن بها ونصدقها، ونسلم بها ونفسر بمقتضاها حوادثنا، ونستنبئ بها أحياناً مستقبلنا، ونستشرف بها غدنا، لا علماً بالغيب، ولكن اتباعاً لسنةٍ إلهية، أثبتت الأيام صدقيتها، وفرض تشابهها وتكرار وقوعها الإيمان بها، والتسليم بحقيقتها، فهي سنةٌ ماضيةٌ من قديم، وستبقى على حالها إلى يوم الدين.
وليس كمثل الشهداء، أصدقاءٌ وأخلاءٌ، في الدنيا والآخرة، يجمعهم الجهاد والمقاومة، وتصفي نفوسهم التضحية والإخلاص، ويساوي بينهم العدو، فلا شئ يستحق في الحياة أن يتعلقوا به سوى بعضهم، ولا حب أسمى عندهم من رابطةٍ نسجوها بدمائهم، وغزلوا جدائلها بأرواحهم، وقد أثبتت الأيام والوقائع أن الشهداء يحبون بعضهم البعض، ويتمسكون بصحبتهم، ويدافعون عن علاقتهم، ويحرصون على البقاء معاً، فليس حمزة ونافع مثالٌ شاذ، أو حالةٌ نادرة، بل هما مثالٌ عن كثيرٍ سبقوا، وبيانٌ عن حالةٍ عامة، يعيشها المجاهدون، ويتمسك بها المقاومون.
أخي فؤاد أصابه الغم، وسكن قلبه الحزن، وشعر بأسى شديدٍ، عند استشهاد عماد الهندي، وهو صديقه وجاره، ورفيقه في المقاومةِ، وشريكه في إطلاق الصواريخ، وابن حارته وسكان مخيمه جباليا، وقد لاحظت والدتي عليه الحزن والاكتئاب، إذ امتنع عن الطعام والشراب، وآثر الوحدة والخلوة بنفسه، ومضى أكثر الوقت صامتاً لا يتكلم، وأكثر من النظر إلى خزانته التي تحتوي على ملابسه العسكرية، وبندقيته وعتاده الشخصي، وهي التي كان يخرج فيها مع عماد لإطلاق الصواريخ، أو للاشتباك مع العدو، أو الرباط على الحدود.
أيامٌ قليلة مضت إثر استشهاد صاحبه، قضاها فؤاد في خطوط المواجهة الأمامية مع العدو الصهيوني، ولم يكن عنده من همٍ يسكن قلبه، ويدمع عينيه، سوى رحيل صاحبه ورفيق دربه عماد الهندي، الذي ناداه من عليائه مستعجلاً، ومد إليه يده طالباً صحبته، فلبى فؤاد سعيداً الدعوة مساء يومٍ من شهر يونيو عام 2003، بعد أن أمطر في صباحه مستوطنات العدو الصهيوني بوابلٍ من الصواريخ، فكان أن تعقبه العدو، وأصاب سيارته بصاروخٍ فاستشهد على الفور، ليلحق بصاحبه، ويدرك صديقه، ويرقد إلى جواره، ليرتحلا معاً في جنان الخلد مع الأنبياء والصديقين والشهداء.
إنهم الشهداء يعرفون بعضهم، ولا يتوهون عن أنفسهم، ولا يتخلون عن صداقتهم، ولا يفرطون في علاقتهم، يستعجلون بعضهم، ويخلصون فيما بينهم، ويمدون أيديهم لبعضهم، يجمعهم الصدق والإخلاص، والتجرد والتفاني والعطاء، يتنافسون فيما بينهم، ويتسابقون في مجموعاتهم، أيهم يسبق إلى الشهادة قبل الآخر، وأيهم يثخن في صفوف العدو أكثر، وأيهم يوجع الإسرائيليين، ويقتل من جنودهم أكثر، وكأنهم بسيماهم يعرفون، وبوجوههم يتميزون، فهم الذين يختارهم الله من بيننا وينتقيهم، والله عز وجل لا يختار إلا الأفضل والأصدق، والأجمل والأطيب، والأزهى والأزكى، والأكثر وسامةً وأخلاقاً، وطيبةً وحباً وجمالاً.