نحو مبادرة عاجلة للإنقاذ الوطني الفلسطيني

بقلم: محمد أبو مهادي

أبلغت إسرائيل السلطة الفلسطينية أنها لن تقوم بالإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين، هذا القرار جاء بعد طلب رئيس حكومة إسرائيل "نتنياهو" من رئيس السلطة الفلسطينية "محمود عباس" توجيه خطاب من على منصة جامعة بيرزيت يعترف فيه "بيهودية دولة إسرائيل" كشرط ضروري لإستمرار المفاوضات وتحقيق السلام، وبعد عدة أيام من إقرار حكومة إسرائيل إقامة أضخم مشروع إستيطاني في مناطق الضفة الغربية بما فيها القدس.

تأتي الخطوات الإسرائيلية بعد وقت قصير من لقاءات واشنطن الأخيرة، التي هدفت إلى دفع عملية المفاوضات قبل إنتهاء الفترة الزمنية المقررة لها، وهو ما يعتبر إعلان واضح عن فشل العملية التفاوضية كما كان متوقعاّ منذ إنطلاقتها حتى الآن، فلا يوجد في الواقع ما يدفع إسرائيل لتقديم تنازلات للفلسطينيين بعد أن فقدت القيادة الفلسطينية معظم أوراق قوتها في مواجهة إسرائيل، وسقط مرة أخرى رهان الرئيس عباس على موقف أمريكي ضاغط على إسرائيل يدفعها لتقديم تنازلات حتى وإن كانت شكلية لا تمس جوهر القضايا الرئيسية وثبات الموقف الإسرائيلي بشأنها لحفظ ماء الوجه وشراء المزيد من الوقت تحت عنوان تمديد المفاوضات.

المأزق السياسي الفلسطيني هنا لا يشبه على الإطلاق مأزق فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، فقد عصفت في العالم الكثير من المتغيرات أثّرت على مكانة القضية الفلسطينية، فقد أبتلي الشعب الفلسطيني بإنقسام مستمر في عهد رئيس فلسطيني بارع في صناعة الأزمات الداخلية وتبديد قوة الفلسطينيين، ولا يحظى بإسناد شعبي يعزز من مواقفه وخياراته إن كان يمتلك خيارات أخرى غير خيار التفاوض رغماً عن إرادة غالبية أبناء الشعب الفلسطيني، فمرحلة مفاوضات كامب ديفيد 2000 مختلفة في الظرف والشكل والمضمون، تماماً كما هو الإختلاف الكبير ما بين الرئيس محمود عباس والزعيم ياسر عرفات.

لم يعد أدنى شك أن الصلف الإسرائيلي والإفلاس السياسي للرئيس عباس سيطوى حقبة زمنية مريرة تضاف إلى تجربة 20 عاماً من المفاوضات، إستفادت خلالها إسرائيل إلى أقصى درجة في عمليات نهب الأرض وتحويل الضفة الغربية إلى معازل سكانية خلف جدار للفصل العنصري بعد إغراقها بالجزر الإستيطانية والحواجز العسكرية، ورسّمت واقع يبدد حلم حل الدولتين ويفتح المجال أمام سيناريوهات جديدة لا أحد يستطيع التكهن إلى أي مدى ستصل بالشعب الفلسطيني.

المشهد الفلسطيني كارثي ومفتوح على كل الإحتمالات في ظل عجز الرئيس وأركان قيادته عن تقديم أي جديد يكسب من خلاله الوقت ويضمن بقاءه رئيساً للشعب الفلسطيني، بعد أن قام بهدم كل جدران الحماية المفترضة لأي رئيس في أي مكان، والشعب الفلسطيني لن يصمت طويلاً عن هذه الملهاة المسماة سلطة ومفاوضات وأجهزة قمع ومسيرة طويلة من مصادرة حقوق الناس والإعتداء عليها بشكل مخجل، تماما كما يفعل أي نظام قمعي في العالم.

ما جرى من أحداث وتظاهرات في عدة مناطق فلسطينية تعطي مؤشراً واضحاً على حجم الإحتقان والتذمر الشعبي الفلسطيني ضد ممارسات الرئيس والسلطة بفرعيها في الضفة الغربية وقطاع غزة ويمهد لعاصفة شعبية متوقعة ستطيح بكل أركان النظام السياسي الفلسطيني بعد الإنكشاف الخطير لهذا النظام ودوره في صناعة الأزمات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والتواطؤ على الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.

موضوعياً هناك إنفجار قادم لا محالة، فقد أدرك الجميع أن السلطة الفلسطينية أصبحت معطل لمشروع التحرر الوطني بعد أن حوّلت المواجهة مع إسرائيل إلى مواجهة داخلية حفرت مأساة في وعي كل الفلسطينيين، وراكمت أعباءاً على المجتمع الفلسطيني إلى جانب ما يقوم به الإحتلال من ممارسات قمعية وتقتيل وحصار يومي، وهناك شعور بالخطر الجماعي الذي يهدد مستقبل كل فلسطيني وسيدفعه للتحرك دفاعاً عن هذا المستقبل ومن أجل إستعادة كرامته وحقوقه المهدورة على مدار السنوات السابقة.

النخبة الوطنية والسياسية على وهنها وعلّاتها يمكنها أن تصوغ مبادرة إنقاذ وطني تجنب الفلسطينيين أخطار الإنفجار القادم، مبادرة شاملة ركيزتها الأساسية وقف المفاوضات ورفض التمديد والتوجه إلى الشعب الفلسطيني لإجراء إنتخابات تشريعية ورئاسية يختار فيها الشعب الفلسطيني بشكل حر من يمثله ويقود مراحله المقبلة، وتعيد الإعتبار للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية بشكل خلّاق يرمم ما خلفته مرحلة المهزلة.

البقاء في مرحلة الصدمة والترقب، والإستسلام النخبوي لما يجري أمر خطير جداً في الحالة الفلسطينية، والخطورة غير مقتصرة على الشؤون الفلسطينية الداخلية وما سيتكبده الشعب الفلسطيني من خسائر ناتجة عن الإنفجار القادم، بل الأكثر خطراً هو قدرة إسرائيل على الإستفادة من تفجّر الأوضاع الداخلية لتكريس إحتلالها الإستيطاني بشكل يعطل قضية التحرر لسنوات وربما عقود طويلة.

إن الإرتهان لسياسات الرئيس عباس في ظل حالة العجز والإنكشاف والإرتباك التي يعيشها أمر غير مبرر وطنياً والصمت عنه هي شراكة بالباطن لكل ما يقوم به، فالحالة الفلسطينية لم تعد تحتمل سياسة تسجيل المواقف وحسب، بل إلى فعل مبادر للإنقاذ الجماعي يحافظ على كيانية الشعب الفلسطينية وأخلاقياته وأهدافه، وتضعه على مسار المواجهة الحقيقية مع الإحتلال بعيداً عن كل الإشغالات الجانبية التي أغرق فيها الفلسطينيين في عهد الرئيس عباس.