الثلاثون من آذار ( مارس ) عام 1976 ليس يوما عاديا... لم تشرق الشمس كعادتها . لم يمسح القمر جبينه بزيت الزيتون ،وبزهر المشمش واللوز برغم أن الفصل كان ربيعيا .. العمال والشغيلة العاملون في المدن الصناعية ،والكادحون لبيع قوة عملهم لمن يشترى في العمل الأسود .. والنساء والمزارعون في الحقول وفى الأراضي الزراعية لم يستيقظوا بعد ،لم يتوجهوا للعمل عن سبق إصرار وتأكيد على الالتزام بالإضراب العام الذي دعت إليه " لجنة الدفاع عن الاراضى العربية " احتجاجا على مصادرة الاراضى العربية في فلسطين المحتلة عام 1948 ،ورفضا لسياسة تهويد الجليل ،والتوسع واحتلال الاراضى ،وتأكيدا على عزم الجماهير الفلسطينية العربية على النضال بدون هوادة ضد مغتصبي أرضهم ،والدفاع عن حقوقهم القومية والمعيشية والإنسانية ،وحقهم بالاحتفاظ بأرضهم ،وارض آبائهم وأجدادهم . الطلبة امتنعوا عن الذهاب لمدارسهم وجامعاتهم والمثقفون والسياسيون العرب كذلك ،ومع ذلك فعشية يوم الأرض لم يذق أهالي القرى والبلدات العربية طعم الراحة ،فصوت مجنزرات وجيبات قوات الجيش الاسرائيلى وحرس الحدود والشرطة ،وكافة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية لم تنم ،وكانت تجوب الشوارع العربية بشكل استفزازي ضد المواطنين العرب الذين يستعدون للإضراب العام ،ولم تتأخر الحكومة الصهيونية في استخدام التهديد والوعيد ،وحملات التخويف قبل يوم الأرض ،مدعومة بتحريض الصحافة والإعلام الصهيوني اليميني المتطرف ضد الجماهير العربية.
لقد تحول مركز الأرض في فلسطين ومحورها الأساس القضية الفلسطينية !!! فالأرض الفلسطينية تأن وتغلي في الجليل والنقب والمثلث والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة... والإنسان الفلسطيني الذي تجذر في الأرض ،وتجذرت فيه ،ينتمي إليها وتنتمي إليه ،لم ينس الثالوث الدنس الذي خلق القضية الفلسطينية ،وأنشأ الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية - الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية والرجعية الفلسطينية والعربية - التي لا زالت تعرقل تحقيق أهدافه الوطنية والاجتماعية والديمقراطية . أدرك بتجربته وبحسه الوطني أن المعركة الحقيقية مع الحركة الصهيونية ودولة اسرائيل على الأرض وعلى الانسان الفلسطيني ،ووعى خطورة التحالف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل ،فحكاية يوم الأرض هي حكاية شعب ،وحكاية تاريخ الصراع الحديث والمعاصر ،حكاية الإستراتيجية الصهيونية الاستيطانية التي تسعى بكل الوسائل والحيل والعدوان أن تلتهم الأرض ،لاستقدام مهاجرين جدد وفي محاولة طرد السكان العرب الفلسطينيين الأصليين ، وإجبارهم على الهروب والهجرة إلى خارج الوطن .
لقد بلغ السيل الزبى ،ولم تعد الجماهير العربية ترض بالضيم ،وتسكت عليه بعد أن مارست سلطات الحكم العسكري الاسرائيلى كل أشكال الإرهاب والتخويف والتمييز العنصري ،فمناطق عربية يجرى اعتبارها مناطق عسكرية ،ويحذر على أصحابها التوجه إليها ،ومن يخالف التعليمات العسكرية يتعرض للمسائلة والاعتقال وربما للقتل بدم بارد .. وأوامر عسكرية سلطوية إرهابية لمنع البناء والعمران ،وفرض إقامة جبرية على المناضلين من التقدميين والشيوعيين ،واعتقالات بالجملة لكل من يرفع صوته عاليا ضد الانتهاكات المستمرة لحقوق المواطنين ،وتصاعد حدة الاضطهاد القومي والطبقي... جنود إسرائيليون يجوبون الشوارع الرئيسة مدججين بالسلاح وبالهراوات واستفزاز واضح للمواطنين العزل ..سيارات عسكرية تطوف المدن والقرى والبلدات العربية وتتمركز في الشوارع الرئيسة تستعرض جبروتها وعنصريتها .... مكبرات الصوت تنادى بمنع التجول في بعض البلدات ،وتسمع عيارات نارية هنا وهناك ،وقوات الجيش تشتبك مع المواطنين الذين يستعدون للمشاركة في الإضراب العام ،وتخوف المواطنون بحدوث مجازر دموية رغم أن الوجهة العامة للإضراب سلمي وديمقراطي ،كل هذه الوقائع تنذر بارتكاب حماقات صهيونية وإرهابية ضدهم وضد الجماهير العربية المحتجة على سياساتها العنصرية وتطهيرها العرقي المتواصل منذ قيام دولة الاحتلال والعدوان.
في الناصرة عاصمة الجماهير العربية ،عاصمة الثقافة الديمقراطية والتقدمية ،عاصمة الشيوعيين عربا ويهودا تعلن بلديتها الإضراب الشامل والمشاركة الجماهيرية في الإضراب ،وقوات حرس الحدود والبوليس تعتدي على أبناء وبنات المدينة ،وتداهم بيت القائد والنائب الشيوعي ورئيس بلدية الناصرة الشهيد توفيق زياد ،وصباح يوم الثلاثين من مارس ( آذار ) 1976 سيارات الشرطة ومجنزراتها ومكبرات الصوت تنادى ممنوع التجول وينهال حرس الحدود ( المشمار جفول ) ،وقوات الشرطة والجيش على المواطنين بالضرب بالهراوات ،وبإطلاق النيران على المواطنين في عرابة البطوف وفى سخنين وكفر كنا وشفا عمرو وطمره وكابول ومرج الكروم والمغار ونجف ودالية الكرمل وحيفا والرامة وعكا وأم الفحم وكفر قرع وعاره وعرعرة وكفر قاسم وجلجولية وقلنسوة وكسرى وباقة الغربية والطيرة والنقب وبئر السبع... الخ وتنتفض كل القرى والبلدات ،تهب عن بكرة أبيها لتعلن الإضراب العام رغم الإرهاب البوليسي والسلطوي ويسقط الشهداء واحدا تلو الآخر شهيد عرابة الشهيد / خير ياسين ،وشهيد كفر كنا الشهيد/محسن طه ،وشهداء سخنين / الشهداء رجا أو ريا ،وخضر خلايلة، والشهيدة خديجة شواهنة ،والشهيد من نور شمس من قرى الضفة الغربية الشهيد / رأفت زهيرى، والعشرات من الجرحى الذين نالوا شرف الدفاع عن الأرض والهوية والانتماء الحقيقي للشعب الفلسطيني الشعب الذي تجذر في النضال وامتلك مخزونا كفاحيا منذ اكثر من قرن في مقارعة المحتلين وضد الحركة الصهيونية والرجعية الاقطاعية العربية.
وتلتهب النيران وتشتعل الثورة ويتحرك الطوفان ،ويسقط الشهداء والجرحى من الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة الذين شاركوا أهلهم داخل الوطن المحتل ،حيث عم الإضراب العام في جميع المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في نابلس وجنين والخليل ورام الله والقدس وطولكرم وغزة وخان يونس وبيت حانون ، وفي كل المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة ،ووقعت الصدامات بين الجماهير وجنود الاحتلال ،وكان الإضراب شاملا وعاما حيث تعطلت الدراسة ،وامتنع العمال الفلسطينيون من الذهاب إلى عملهم في إسرائيل ،وامتزج الدم الفلسطيني بالدم الفلسطيني ، ليرفع راية الكفاح دفاعا عن الأرض ،ويجيء يوم الثلاثين من آذار مارس ليعبر عن وحدة الجماهير الفلسطينية والعربية ،وقدرتها على مواصلة النضال ضد سياسة المصادرة والتمييز القومي التي تمارسها السلطات الصهيونية منذ قيام دولة إسرائيل ،ورفضا للاحتلال الاسرائيلى للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.
لقد أعتبر الفلسطينيون الثلاثين من مارس ( آذار ) من كل عام عيدا وطنيا وكفاحيا تجدد الجماهير الفلسطينية تمسكها بالأرض ،وتحتفي به جماهيرنا العربية ،ومع مرور ثمان وثلاثين عاما على يوم الأرض الخالد فلا زالت السياسة الصهيونية التوسعية تمارس سياستها العدوانية على الشعب العربي الفلسطيني ،وتحاول بكل الوسائل سلب الأرض وتهويدها ،وضمها ،ولم تتغير سياستها الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة ،وتزايدت هجمتها الاستيطانية ،وتصاعدت إجراءات تهويد القدس ،وبناء المستوطنات والوحدات الاستيطانية ،وجدار الفصل العنصري الذي يهدد مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس ،وبقيت المفاوضات تراوح مكانها دون تحقيق هدفها ،وشكلت غطاء للاحتلال الاسرائيلى ،لإيهام العالم بأن إسرائيل حريصة على السلام ،إنها خدعة كبرى وتضليل سافر للرأي العام الدولي ،لا يمكن أن تستقيم معادلة استمرار المفاوضات مع استمرار الاستيطان والحصار .
فهل بعد دروس يوم الأرض ،وفشل المفاوضات في وقف الاستيطان أن تضع القيادة الفلسطينية ومعها كل القوى الوطنية ومكونات المجتمع المدني ومؤسساته المختلفة خطة وطنية سياسية وكفاحية شاملة لمواجهة الإستراتيجية الصهيونية تعتمد في أساسها على القوى الأكثر تمسكا بأهداف شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة ،وإعادة الاعتبار للبعد الشعبي والجماهيري ،والمقاومة الشعبية ،وتثبيت صموده على ارضه ،وتعزيز الوحدة الوطنية ورص الصفوف ،وإنهاء حالة الانقسام والتطبيق الفوري لما تم التوافق عليه في القاهرة والدوحة دون تلكؤ ،بعيدا عن المناكفات والذاتية والمصلحة الفئوية الضيقة ،فالوطن ليس ضيعة أو عقارا لهذا الفصيل أو تلك الحركة ،ولتتحمل كل القوى الديمقراطية والتقدمية مسؤوليتها الوطنية والتاريخية ،والتوجه للعالم بسياسة واقعية صلبها التمسك بقرارات الشرعية الدولية ،وبمبادرة السلام العربية ،مدعومة بالبعد العربي والاسلامي والدولي وكل أنصار السلام في العالم ،ودون أن نضع البيض كله في جبهة المفاوضات لوحدها ،أو المراهنة فقط على الموقف الامريكى المنحاز لإسرائيل .
ان العمل على نقل ملف القضية الفلسطينية للأمم المتحدة ،وعقد مؤتمر دولي برعايتها وبرعاية مجلس الأمن والتوجه لانضمام دولة فلسطين لكافة المنظمات الدولية بما فيها محكمة الجنايات الدولية ،وتقديم كل السياسيين والعسكريين الاسرائيليين لمحاكمتهم على جرائمهم ضد شعبنا وملاحقتهم كمجرمي حرب ،ورفض كل الضغوط التي يمكن أن تمارسها الولايات المتحدة الامريكية على القيادة الفلسطينية لإجبارها على تمديد المفاوضات ،مستخدمة اسلوب العصا والجزرة لتمييع الموقف الفلسطيني . ان على القيادة الفلسطينية أن تتسلح بقدرة شعبها على افشال كافة الضغوط ،وهو صاحب المصلحة الحقيقية في الدفاع عن حقوقه الوطنية المشروعة ،حقه في تقرير المصير وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس بدون مستوطنين ومستوطنات وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لديارهم طبقا للقرار ألأممي 194.
طلعت الصفدي
غزة – فلسطين 29/مارس 2014
[email protected]