طرح مؤتمر مركز مسارات العديد من القضايا، وهي بحاجة إلى متابعة واستكمال حتى تتبلور بمراجعة شاملة وعميقة للتجارب الفلسطينية تستخلص الدروس والعبر، وتصل إلى بلورة رؤى إستراتيجية جديدة يتم فيها إعادة تعريف المشروع الوطني وتحديد الأهداف الإستراتيجية، التي على أساسها يمكن تحديد "إستراتيجيات المقاومة".
في هذا المقال سأركز على قضية "لماذا لم يتم إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة؟" بالرغم من موافقة جميع الفصائل على اتفاق القاهرة.
من الأسباب التي حالت دون تطبيق الاتفاق التركيز على حل أزمة السلطة في ظل الاستمرار بالالتزامات المجحفة التي تقيدها،وإهمال المنظمة، وتجاهل الجذر السياسي للانقسام، لأن الاتفاق أهمل البرنامج السياسي؛ نظرًا لاستمرار الهوة بين برنامج "فتح" وبرنامج "حماس"، بالرغم من التقارب الملموس الحاصل بعد مشاركة "حماس" في السلطة، وانضمامها إلى لجنة تفعيل المنظمة، وموافقتها على المفاوضات، وهدف إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وعلى التهدئة، والمقاومة الشعبية.
نقطة أخرى أثرت سلبيًا، هي الاتفاق بعد التوقيع على "اتفاق القاهرة" مباشرة على تأجيل تطبيق البنود المتفق عليها بخصوص الأمن.
في نفس السياق، تم تحويل الإطار القيادي المؤقت المنصوص عليه في الاتفاق، الذي حدد صلاحياته، في إطار عملية التطبيق إلى "لجنة تفعيل المنظمة"، التي لم تمارس عملها بشكل دائم ومنظم، واجتماعاتها مجمدة منذ فترة طويلة.
إن الربط ما بين المصالحة والمفاوضات و"عملية السلام" لجهة النجاح والفشل، والرهان على المتغيرات الإقليمية والعربية والدولية ساعد على عدم تطبيق اتفاق القاهرة. فبعد خشـيتها من وقوف نظام حسني مبارك (راعي المصالحة) إلى جانب منافستها حركة فتح؛ راهنت "حماس" على صعود الإخوان المسلمين، وأنه يمكن أن تحقق أكثر مما حصلت عليه في اتفاق المصالحة. وأما "فتح" فراهنت على الاعتراف الدولي بها وعلى المفاوضات وشروط اللجنة الرباعية، كما أنها كانت تخشى من انعكاسات المصالحة على الجهود الرامية إلى استئناف المفاوضات؛ هذا علاوة على عدم قيام القوى الأخرى (خصوصًا اليسارية) بمسؤولياتها كاملة بتقديم نموذج وطني ديمقراطي واقعي قادر على كسر حالة الاستقطاب ما بين "فتح" و"حماس"، ويجسد ممارسة تحتكم إلى الشعب قادرة على إشراك الجماهير لإنجاز الوحدة الوطنية؛ إضافة إلى تركيز الحوار والاتفاق على "فتح" و"حماس" وإهمال دور الفصائل الأخرى، وبقية الشعب وممثليه في مختلف تجمعات الشعب الفلسطيني.
وأسهم في تجذر الانقسام إهمال الجانب (الاقتصادي الاجتماعي الثقافي الديمقراطي) في اتفاق المصالحة، بما يضمن سيادة القانون والمساواة والعدالة والحقوق والحريات الفردية والعامة والتعددية بكل أشكالها، وعدم المساس بحرية العقيدة والحق في التعبير وإبداء الرأي والتظاهر.
إن "اتفاق القاهرة" هو اتفاق قام على أساس معادلة "لا غالب ولا مغلوب"، واستند إلى "وثيقة الأسرى" التي تحولت بعد تعديلها جزئيا إلى وثيقة الوفاق الوطني التاريخية التي مثّلت أول محاولة لبلورة برنامج توافقي بين الاتجاهين في الحركة الفلسطينية (الوطني والديني).
ومن أسباب عدم إنهاء الانقسام أيضًا صعوبة إجراء انتخابات المجلس الوطني، فحتى يمكن إجراؤها هناك حاجة إلى موافقة بلدان عربية ودولية يقيم فيها اللاجئون، أبرزها الأردن الذي يقيم فيه قسم كبير من اللاجئين الفلسطينيين، إذ إن من الاستحالة أن يسمح بانتخابات يشارك فيها الفلسطينيون الحاصلون على الجنسية الأردنية. وانشغال مصر الراعية للاتفاق بأوضاعها الداخلية، وما ترتب عليها من انتخابات وتغييرات وتطورات.
جرت محاولة لإنقاذ "اتفاق القاهرة" من خلال "إعلان الدوحة"، الذي ركز على نقطتين أو ثلاث نقاط من "اتفاق القاهرة"، وأهمل الأخرى، وهما نقطة الحكومة والانتخابات الرئاسية والتشريعية، وهما النقطتان اللتان تؤثر عليهما الأطراف الأخرى.
هناك مجموعة من المبادرات المطروحة للخروج من مأزق الانقسام، منها مبادرة تقوم على اعتبار أن "الدولة المراقبة" تتطلب إجراء انتخابات لبرلمان الدولة وتشكيل حكومة الدولة الفلسطينية، بحيث تكون هي ذات اللجنة التنفيذية للمنظمة، أو بعد إعادة تشكيلها وانتخابها عقب دعوة المجلس الوطني للانعقاد بصورته الحالية، بينما تنادي مبادرة أخرى بـتشكيل مجلس تأسيسي يضم أعضاء لجنة تفعيل المنظمة وأعضاء المجلسين المركزي للمنظمة والتشريعي، للقيام بدور المجلس الوطني إلى حين إجراء الانتخابات، وتكون اللجنة التنفيذية المنتخبة هي حكومة الدولة الفلسطينية؛ وهناك أيضًا أفكار تتعايش مع الانقسام وتسعى إلى إدارته وتحسين شروط الحياة، عبر التنسيق في القضايا المعيشية والحياتية التي تتعلق بالصحة والتعليم والإدارة والخدمات .. إلخ.
ومن ضمن الأفكار المتداولة في سياق إنهاء الانقسام الدعوة الحمساوية إلى مشاركة فصائل وشخصيات أخرى في حكومة "حماس"، وهذا إن تم يكرس الانقسام ولا يساعد على إنهائه، وأفكار أخرى تجمع ما بين المسارات السياسية والمعيشية من خلال عدم إهمال قضايا المواطنين الحياتية وتنفيذ كل ما يتم الاتفاق عليه من دون انتظار الاتفاق على كل شيء، والاهتمام في نفس الوقت بالاتفاق على القضايا السياسية والجوهرية.
وطرحت مؤخرًا فكرة تنادي بتشكيل هيئة وطنية متوافق عليها، وتضم شخصيات مستقلة، لإدارة قطاع غزة لفترة مؤقتة، تستند إلى احتمالية استمرار الخصومة ما بين "حماس" والحكم المصري الجديد، وعدم رجحان انهيار حكم "حماس" بالرغم من المأزق الشديد الذي تعيشه، لامتلاكها من العوامل وأسباب البقاء الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية ما يجعل انهيارها ليس في متناول اليد، ومن شأن تشكيل هذه الهيئة تقديم حل فوري لـ"حماس" للتخلص من أعباء الحكومة التي أصبحت أكثر من قدرتها، بعد تشديد الحصار، إضافة إلى سهولة قيام الهيئة بإقامة علاقات طبيعية مع مصر ومع الرئيس "أبو مازن" والسلطة في الضفة، وهي أقدر على إجراء الاتصالات الضرورية التي تتعلق بالأمور المعيشية مع سلطات الاحتلال
كما ترتكز هذه الفكرة إلى صعوبة صمود أي اتفاق يجري توقيعه ضمن الظروف والمعطيات القائمة، وإلى توفير ضمانات لـ"حماس" بأن مغادرتها للحكومة لن يمس بحقوق الموظفين ولا بالاعتراف بها كتنظيم فلسطيني أساسي، ولن يمس أيضًا باستمرار الجهود لتحقيق الشراكة السياسية في المنظمة والسلطة.
إن المطلوب من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية التركيزُ على إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، على أسس وطنية وشراكة حقيقية قائمة على المصلحة الوطنية، وفي سياق إجراء مراجعة شاملة واستخلاص الدروس والعبر، وما يقتضيه ذلك من إعادة تعريف المشروع الوطني وإعادة صياغة وتطوير وثائق الإجماع الوطني في ضوء الخبرة المستفادة والحقائق المستجدة.
كما لا بد من الاحتكام إلى الشعب عبر صناديق الاقتراع كلما كان ذلك ممكنًا، وفي إطار يحفظ الوحدة والشراكة، وتلبية الاحتياجات الحياتية وتحسين شروط الحياة، على أساس المساواة وتكافؤ الفرصة والعدالة الاجتماعية.
ويضاف إلى ما سبق الدعوة إلى عقد مؤتمر وطني بمشاركة الفصائل والفعاليات وقوى المجتمع المدني وممثلين عن مختلف التجمعات الفلسطينية؛ لمناقشة واقع القضية الفلسطينية وآفاقها، وكيفية مواجهة التحديات والمخاطر، وتوفير شروط وعوامل النهوض.
لا يمكن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة من دون قيام "حماس" بتغليب كونها جزءًا من الحركة الوطنية على كونها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، وبالتالي الكف عن ربط وجودها ومستقبلها ودورها بالمتغيرات العربية والإقليمية والدولية، وصعود أو هبوط الإسلام السياسي، وتوفر القناعة لديها بأهمية الشراكة الحقيقية وأن ليس بمقدورها وحدها ولا بمقدور أي فصيل قيادة الشعب الفلسطيني وحده.
ويتطلب إنهاء الانقسام أيضًا كف حركة فتح عن ربط المصالحة (الوحدة الوطينة) بتقدم وتأخر ما يسمى "عملية السلام"، والاقتناع بأن الزمن الذي قادت فيه الشعب الفلسطيني بمفردها وبمشاركة من الفصائل الأخرى لا تمس جوهريًا قيادتها قد ولى ولن يعود.