منذ مؤتمر مدريد دخلنا دهاليز المفاوضات ووقعت القيادة الفلسطينية إتفاق اوسلو،والذي اعتبره البعض في الساحة الفلسطينية إنجازاً ونصراً،وان هذا الإتفاق ممر إجباري ولا يمكن إبداع أفضل مما كان،وفي المقابل رأت اسرائيل في هذا الإتفاق نصراً تاريخياً ثانياً،والمهم دخلنا تلك المفاوضات وعظمنا شانها ودورها الى حد انها الطريق والسبيل الوحيد من اجل إستعادة حقوقنا المشروعة في حدودها الدنيا،دولة فلسطينية على حدود الخامس من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشريف،مع التاكيد على حق العودة،حتى ان كبير طاقم المفاوضين الفلسطينيين،خلص الى نتيجة بان الحياة مفاوضات،وألف الكتب في ذلك،ومنذ ذلك التاريخ ونحن نمسك بخيار المفاوضات التي تتعثر أحياناً كثيرة وتتقدم حيناً آخر،ولم تقدم اسرائيل من خلالها اي تنازل جدي او حقيقي يلامس تلك الحقوق،بل أقصى ما كانت تقدم هي رشاوي اقتصادية وتسهيلات حياتية ومعيشية،وتصاريح عمل وبطاقات شخصيات مهمة"VIP" وإطلاق دفعات من الأسرى،من اجل تهدئة الشارع الفلسطيني وإمتصاص غضبه ونقمته لكي لا تنفجر الأوضاع،والبعض يدعي بان اسرائيل ليس لديها مشروعاً للسلام،ولكن اسرائيل منذ مؤتمر مدريد مشروعها واضح واستراتيجيتها واضحة،وقد عبر عنها انذاك رئيس وزراء العدو السابق اسحق شامير،عندما قال لا ضير بان نفاوض الفلسطينيين عشرين عاماً ولا نعطيهم شيئاً،ووفق هذه الرؤيا والنظرية صارت كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على مختلف تلاوينها وإنتماءاتها السياسية والحزبية.
والقيادة الفلسطينية في الكثير من المرات قالت بانها لن تعود الى المفاوضات،فهذه المفاوضات عبثية غير ومجدية،حتى طاقم المفاوضات نفسه،توصل لهذه النتيجة،وإستقال إحتجاجاً على ذلك،ولكن القيادة الفلسطينية،تحت الضغوط الكبيرة التي تتعرض لها اسرائيلياً وامريكياً وعربياً تعود الى تلك المفاوضات،والعودة في الغالب لم تكن مستندة الى حجج وبراهين ومعطيات مقنعة،بل تعتمد على التجريب وحسن النوايا والوعود الأمريكية والغربية،وكذلك المصالح التي نمت عند أركان العديد من قيادة السلطة،بأن هذا مشروعها الإستثماري الذي يجب ان تحافظ عليه،ولكن تلك العودة سرعان ما تصطدم بحاجز الرفض الإسرائيلي،وليس هذا فقط فالأمريكان يطرحون أفكاراً وضمانات للجانب الفلسطيني،ولكن في نهاية المطاف يتراجعون عن ما يطرحونه ،لتتماثل مواقفهم ورؤيتهم مع الطرف الإسرائيلي،وفي بعض الأحيان،تجد المواقف الأمريكية اكثر تطرفاً من المواقف الإسرائيلية فيما يتعلق بالشان الفلسطيني قضيته وحقوقه.
ومع دخول عالمنا العربي ما يسمى ب"ثورات الربيع" العربي،والتي تمخضت عن خريف قاتم ومظلم،ومشاريع امريكية واوروبية غربية من اجل إعادة اقتسام المنطقة العربية من جديد على اساس سايكس- بيكو جديد قائم على الثروات والمذهبية والطائفية وليس الجغرافيا،هذا الربيع ادخل المشروع القومي العربي في ازمة عميقة،وعملت قوى الإسلام السياسي"الإخوان المسلمين" بالتحديد،من اجل تصفية ركائز وحوامل هذا المشروع،وفي ظل حالة الضعف والإنهيار العربي،شعرت امريكا واسرائيل بأن الفرصة مؤاتية من اجل تصفية القضية الفلسطينية،فجاء كيري للمنطقة لهذا الغرض والهدف،حيث مارس ضغوطاً كبيرة على القيادة الفلسطينية للعودة للمفاوضات،ودون ان يقدم أية ضمانات حقيقية للطرف الفلسطيني،بأن يكون هناك حل للقضية الفلسطينية،يعتمد المرجعيات والقرارات الدولية الخاصة بها،وخاض كيري جولات وجولات من المفاوضات،وفي كل جولة كان يتحدث عن تقدم جوهري في المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية،ولكن عندما ازفت ساعة الحقيقية واقتربت المفاوضات من نهايتها،قال كيري بان هناك ازمة حقيقية بين الطرفين،تجعل من الصعب حصول اتفاق قبل نهاية التسعة الشهور المتفق عليها كمدة للمفاوضات،تلك المدة التي عاد الطرف الفلسطيني اليها متعارضا مع اغلب مكونات الشعب الفلسطيني ومؤسساته الرسمية.
ومن خلال تلك المفاوضات،كانت الأمور واضحة للطرف الفلسطيني،بأن اسرائيل فقط تريد تلك المفاوضات،من اجل مواصلة مشاريعها الإستيطانية،وفرض حقائق ووقائع جديدة على الأرض،حتى ما التزمت به من إطلاق سراح أسرى ما قبل اوسلو ال(104) على اربع دفعات لم تلتزم به،بل إبتزت الطرف الفلسطيني،وسكت على الإبتزاز والإهانة،فمنذ الدفعة الأولى خلقت اسرائيل معادلة جديدة،أسرى مقابل الإستيطان،مقابل كل دفعة أسى تتحرر مشاريع إقامة مئات،بل ألآلاف الوحدات الإستيطانية في القدس والضفة الغربية،وفي الدفعة الثالثة تلاعبت في الموعد والأسماء إضافة لذلك،في حين رفضت إطلاق سراح الدفعة الرابعة من الأسرى،وعدم إطلاق سراح أسرى الداخل – 48 -،وتقديم عروض او حلول بإطلاق سراحهم،مقابل إبعاد عدد منهم وإطلاق سراح الجاسوس الإسرائيلي بولارد،وقبول الطرف الفلسطيني بتمديد المفاوضات،وهي لم تكتفي بهذا الإبتزاز،بل أصبحت تطالب الطرف الفلسطيني بالإعتراف بيهودية الدولة،وامريكا انضمت لهذه الضغوط،وكيري طالب الطرف الفلسطيني من أجل التوصل الى اتفاق انتقالي،اتفاق يصفي القضية الفلسطينية،الإستجابة للمطلب الإسرائيلي الإعتراف بيهودية الدولة،والطرف الفلسطيني شعر بانه سينتحر سياسياً اذا ما وافق على هذا المطلب،ولذلك لجأ الى خيار تقديم طلب الإنضمام الى المؤسسات الدولية،هذا الحق الذي لم يستخدمه،تحت امل ان يحصل على شيء من المفاوضات،فتقدم بطلب الى الإنضمام الى 15 منظمة واتفاقية ومعاهدة دولية،ليس من بينها محكمة الجنايات الدولية ولا اتفاق روما،الذي يمكن السلطة من رفع قضايا على اسرائيل وقادتها بمختلف مسمياتهم على الجرائم التي يرتكبونها بحق الشعب الفلسطيني،ولكن خيار الإنضمام للمؤسسات الدولية،يبدو انه لم يتخذ في إطار استراتيجية متكاملة،بل يبدو انه من اجل تحسين شروط التفاوض،دون مغادرة نهج المفاوضات،ومن أجل استعادة جزء من الثقة بالسلطة وهيبتها التي تآكلت كثيراً عند الشعب الفلسطيني.
على ضوء كل ما ذكر،وعلى الرغم من صعوبة الخيارات...فهل ما آلت اليه المفاوضات العبثية خلال عشرين عاماً من طحن للماء،وتمدد وتقدم للمشروع الصهيوني الإستيطاني،كفيلة لأصحاب القرار،بان يتخذوا قرارات ذات طابع وبعد استراتيجي،قرارات تلغي الرهان على هذا الخيار،وبناء استراتيجية جديدة تقوم على الصمود والمقاومة،فالمقاومة هي حق للشعوب المحتلة،وهي من تصنع الإنتصارات وإستعادة الحقوق،وهل ستواصل السلطة إنضمامها لكافة المعاهدات والاتفاقيات والمنظمات الدولية...أم هي تستخدمها كتكتيك بائس من اجل العودة للمفاوضات..؟ وهل سيتم تغليب المصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني على المصالح الحزبية والفئوية الضيقة،ويتم توحيد جناحي الوطن بإنهاء الإنقسام المدمر..؟؟وهل سيتم بناء استراتيجية فلسطينية واحدة،تستجيب لكل التطورات والمتغيرات والخيارات القادمة،ام سنبقي في إطار التجريب والعمل الفردي وردات الفعل..؟
الفترة ليست بعيدة لكي نرى ما ستؤول اليه الأمور،ولكن حتى لو جرت العودة للمفاوضات،فالأوضاع ستنفجر،فإسرائيل ليست بواردها تقديم أي تنازلات جدية للطرف الفلسطيني من خلال المفاوضات.
القدس المحتلة –فلسطين
11/4/2014
0524533879
[email protected]