الروح الانسانية والضرورة الحربية في القانون الدولي

بقلم: حنا عيسى

إن جميع مؤرخي التاريخ ينظرون الى الحرب على انها ظاهرة تاريخية لازمت الشعوب منذ القدم, حيث تكرر حدوثها بشكل شبه مستمر اي منذ صراع قائين مع اخوه هابيل وحتى ايامنا هذه. واذا تبحرنا في سنوات القرن التاسع عشر فنجد هذه السنوات لم تخلى من حروب اوروبية او افريقية او اسيوية او امريكية مع اختلاف هذه الحروب بين بعضها من حيث الاسباب الاجتماعية او الاقتصادية او السياسية او القومية او العقائدية وكذلك من حيث الوقائع و الاسلحة والاساليب المستخدمة ايضاً في هذه الحروب. اما في القرن الحالي فقد عرف العالم الذي نعيش فيه مئات الحروب الكبير والصغيرة وخاصة الحربان العالميتان الاولى والثانية  اللتان كلفتا البشرية ما يزيد عن (70) مليون من القتلى. ومن المعروف في الازمان القديمة كانت جميع وسائل الحرب مشروعة بالنسبة للفريقين المتحاربين, لذا كانت تتم خلال الحروب القديمة أبشع انواع الجرائم من تمثيل, وابادة بالجملة .. الخ بدون اي تمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين من شيوخ ونساء واطفال.

فقد اشتهر الاشوريين مثلا باستخدام اضخم الالات والعدد الحربية لاسقاط المدن التي يحاصرونها, وكانوا يقبضون على من بقي حيا من المقاومين بعد سقوط مدينتهم ويعدمونهم بأبشع  الاوسائل ويعلقون جثثهم على ابواب المدينة لفترة من الزمن.

وعرفت القسوة نفسها عن الفرس وعن الكلدانيين عند اكتساحهم لمدينة القدس وعن اليونان والمكدونيين حيث يقال ان السكندر المقدوني امر بأعدام (4000) اسير من اهالي صور جزاء لهم على مقاومتهم له وعدم استسلامهم. ورغم ان الرومان حاولوا الحد من الصلاحيات المطلقة لقادة جيوشهم في الحرب (بعض مواد قانون الالواح الاثنى عشر مثلاً) فان تصرفات هؤلاء القادة بقيت تعد ضمن اقسى ما عرف العالم القديم من اجراءات تعسفية ضد سكان الاقاليم المفتوحة.

لكن كما نعرف فان الفلاسفة الهنود والصينيون قد اهتموا في معالجة قوانين الحرب وادخال شيئ من الروح الانسانية في حروب ذلك العصر, حيث عبر الفيلسوف الصيني (كونفوشيوس), يصوغ كثيراً من الوصايا في هذا المجال, كما ان الفيلسوف الهندي (مانو) قال في التشريع الذي يحمل اسمه ضمن ما قاله (على المحارب الا يقتل عدوا استسلم ولا اسير حرب, ولا عدواً نائماً او أعزل, ولا شخصاً مسالماً غير محارب, ولا عدواً مشبكاً مع خصم اخر). ولكن بالرغم من هذا كله فان الحروب التي انطلقت من وسط وشرقي آسيا كانت كانت دوماً حروباً بلا رحمة سواء في ذلك الحروب التي قادها جنكيزخان أو هولاكو أو تيمورلنك. لكن الاديان السماوية لعبت دوراً كبيراً في ادخال الروح الانسانية الى الحرب .. أما بالنسبة للاوروبيين فقد كادت القرون الوسطى ان تنتهي وهم يطبقون في حروبهم شرائع كيفية تختلف باختلاف القادة الذين كانوا يرأسون الحملات العسكرية, فنرى مثلاً في حروب القرون الوسطى وخاصة في الحرب المائة عام التي نشبت بين بريطانيا وفرنسا خلال القرن الرابع عشر.

اما بالنسبة للفقهاء (القانون الكنسي) فقد انصرفت جهودهم الى التمييز بين (الحرب العادلة والحرب غير العادلة). وهكذا لم يكن هناك اي تمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين في الحروب الاوروبية القديمة, ويظهر هذا جلياً في البيان الذي اصدره الملك فرانسوا لما اعلن الحرب على الامبراطور الاسباني شارلكان ( اعلموا اننا نعلن ان الامبراطور المذكور واتباعه ومجموع رعايا البلاد التابعة له هم اعداء لنا ولمملكتنا ولمقاطعاتنا ورعاياها, وباعلاننا هذا نعطي الموافقة لجميع هؤلاء على استعمال السلاح ضد الاشخاص المذكورين اعلاه في الحرب بحراً وبراً).

واول محاولة جرت في اوروبا لادخال فكرة حماية غير المقاتلين في الحروب قام بها احد رجال الكنيسة الفرنسيين وهو الكاردينال بيلارمان (1542 – 1621) الذي يقول في احد كتبه:-

" ان غير القادرين على الحرب كالقاصرين والنساء والشيوخ والعجزة الاخرين يجب عدم المساس بهم , لان الدوافع الانسانية تدعونا لعدم قتل اولئك الذين لا يستطيعون القتال, وان رجال الدين والاحانب والتجار والفلاحين الذين يزرعون اراضيهم يجب عدم اسرهم تمشياً مع اعراف جميع الامم). ولما دخلت اوروبا عصر النهضة وقامت حركة الاصلاح الديني بدأ الفقهاء ورجال الدين بالاحتجاج ضد جرائم الوحشية التي كانت تحدث في حروب ذلك الوقت , وتمكنوا من جعل المسؤولين الاوروبيين يعقدون اتفاقية خاصة عرفت باتفاقية (وستفاليا) التي وضعت حداً لحرب الثلاثين عاماً سنة 1748م.

وقد بلغ ازدهار المبادئ الانسانية ذروته في القرن الثامن عشر بفضل كتابات الفقيه السويسري (فاتيل) والكاتبين الفرنسيين الشهيرين ( مونتسكيو وجان جاك روسو).

وما يذكرنا به روسو فهو اول من نادى بما يسمى (انسنة الحرب) في اوروبا, حيث كتب في "العقد الاجتماعي" يقول: "الحرب ليست علاقة بين فرد وفرد او فرد ودولة , بل هي علاقة بين دولة ودولة , والاشخاص العاديون في هاتين الدولتين ليسوا اعداء الا بصورة عرضية, ليس بصفتهم رجالاً ولا بصفتهم مواطنين ولكن كجنود فقط)".

وقد كان لافكار هؤلاء الفقهاء الثلاثة وامثالهم اثر كبير في صياغة وبلورة المبادئ التي تبنتها وسارت عليها الثورة الفرنسية منذ عام 1789م وما بعد. وهكذا احدثت الثورة الفرنسية تطوراً ضخماً في شتى مظاهر الحياة, ومن ضمن هذا التطور بلا ريب انتقال بعض مبادئ قانون الحرب من اطار الاخلاق والمجاملة الدولية الى اطار العرف الدولي الذي يجب مراعاته من قبل جميع الدول بشكل ملزم. وقد حاولت حكومة الثورة الفرنسية ان تشجع بقية الدول على ادخال الروح الانسانية في حروبها, فسنت مراسيم خاصة بشأن معاملة اسرى الحرب سنة 1792م.

ومع بداية القرن التاسع ارتفع عدد المطالبين بتدوين القواعد القانونية ومن ضمنها قواعد القانون الدولي بما فيها قواعد قانون الحرب, بعد الصدى الحسن الذي لاقاه تدوين القانون المدني والقانون التجاري في فرنسا سنتي 1804 و1807 على التوالي.

ولكن هذه الدعوة لم تلق الدعم الكافي لها الا بعد نصف قرن, وكان ذلك في مؤتمر باريس البحرى سنة 1856م, ثم باتفاقية جنيف الاولى لعام 1864, وما تبع ذلك من اتفاقيات دولية لتدوين قانون الحرب, واه هذه الاتفاقيات بلا ريب:-

v    اتفاقيات لاهاي لعام 1899م و1907م.

v  اتفاقيات جنيف المتعاقبة التي تم توقيع اخر مجموعة منها عام 1949م وتم تعديلها في اوائل عام 1977م باضافة ملحق يحوي (102) مادة يضاف الى احكامها.

اذن فالخلاصة ان هناك عاملان ساهما ولا زالا يساهمان في تطوير قانون الحرب وهما:-

v    الروح الانسانية.

v    الضرورة الحربية.

فادخال الروح الانسانية في الحرب تنظمه اتفاقيات جنيف المتعاقبة بدءاً من اتفاقية 1864م وانتهاء باتفاقيات 1949م. والضرورة الحربية فتنظمها اتفاقيات لاهاي بدءاً باتفاقيات 1899م وملاحقها وانتهاء باتفاقيات لاهاي لعام 1954م الخاصة بحماية الاثار الادبية والتاريخية والفنية في زمن الحرب.