تناقلت أخبارنا المحلية في الأسبوع الأخير ظواهر طائفية لا يمكن للعقل السليم ان يمر عليها وكأنها امرا لا غبار عليه ولا يشكل ظاهرة مقلقة ومدمرة لتواصلنا الاجتماعي والوطني!!
****
أحد المواقع التي كنت أشارك في الكتابة فيها، طرح موضوعا "خطيرا جدا" للبحث والتداول.
توقعت ان الموضوع يتناول مصير الأقطار العربية في ظل ما يجري اليوم في مصر وتونس والجزائر وسوريا وليبيا، وهل سيتمكن العالم العربي من تقرير مصير العرب بما يتناسب ووزنهم الكمي(ولا اقول النوعي)، وبما يتناسب مع ثروتهم التي لا ترجمة اقتصادية لها في الواقع الاجتماعي العربي، او ان يتناول "الموضوع الخطير جدا" في البحث رؤية العرب لهويتهم ولقضايا مجتمعهم السياسية بكل اتساعها وكيفية مواجهتها من اجل الانطلاق الى مستقبل يستعيدون فيه مكانتهم بين الشعوب المتقدمة، بما يجعل القوى الخارجية تأخذ مواقفهم ومصالحهم بانتباه وحذر. او يطرح مشكلة الطائفية التي تمزق العالم العربي بين المسلمين انفسهم (سنة وشيعة) وبينهم وبين طوائف عربية اخرى كالمسيحيين مثلا.
المفاجأة غير السارة كانت حين قرأت عنوان الموضوع الخطير جدا الذي يشغل اوساط واسعة من عالمنا العربي: "هل سيدخل المسلمون وحدهم الجنة دون خلق الله؟"
قرأت واحترت بين البكاء أو الضحك. مشاركات بعض الكتاب حول الموضوع الخطير كانت مجرد هرطقة، تغير إحساسي من الضحك أو البكاء إلى حيرة وقلق حول متاهات الوعي والعقل والاتزان عند الإنسان عامة وبعض العرب خاصة. هل من الممكن أن يشغل هذا "الموضوع الخطير" مثقفين وأكاديميين في مجالات علمية، بدل مسائل الفيزياء مثلا، أو الاكتشافات التي تغير مجرى العلوم، مثل اكتشاف جزيئات سرعتها أكبر من سرعة الضوء؟ أو موضوع الانفجار الكبير وتشكل الكون ؟ أو طرح بدائل لمجتمع الفساد، عبر رؤية حداثية لمجتمع المساواة والعدالة الاجتماعية والتطور الاقتصادي والتعليمي والعلمي؟ أو إنجاز نظام ديمقراطي يضع الإنسان في رأس سلم أولوياته؟ أو رؤية ثقافية لبناء مجتمع يقرأ ويترجم ويجدد رصيده الثقافي، فلا يبقى غارقا في متاهات الماضي التي استهلكت بموضعها وبغير موضعها حتى السأم؟!
مسائل كثيرة هامة جدا، ومصيرية جدا، تدفقت في ذهني وأنا أمنع نفسي من الضحك حزنا.. فشر البلية ما يضحك!!
ما دفعني للكتابة عن الموضوع ما شهده مجتمعنا العربي داخل اسرائيل في الأيام الأخيرة من طوشة عمومية في سباق لتسجيل ملكية السماء.
ظننت اننا نتقدم الى الأمام بفعل التأثيرات الليبرالية للمجتمع الاسرائيلي وهو مجتمع اوروبي ليبرالي ديمقراطي يخضع لقانون وضعي رغم كل سلبيات النظام العنصري.
نعم تأثرنا بالمفاهيم الليبرالية والفكر الديمقراطي ومفاهيم حقوق الانسان وحقه في حرية العقيدة والإختلاف الثقافي والديني والاثني. مجتمعنا، رغم كل الضغوطات العنصرية والتمييز القومي كان يشد الخطى نحو العصرنة بكل اتساعها...
على الأقل هذا ما كان واضحا قبل عقدين او اكثر من السنين.. وأعترف اني بدأت ألاحظ تراجعا مقلقا وميلا نحو التزمت الديني منذ ثلاثة عقود على الأقل ، تأثرا بالثورة الاسلامية في ايران كبداية وصولا الى نقل سلبيات التعصب الديني في العالم العربي الى مجتمعنا المحاصر في اسرائيل... ليس بدون رضا حكومي ومخابراتي وربما بتشجيع اوساط عليا في قمة الهرم السياسي للنظام الإسرائيلي والشهادة على ذلك احداث ما عرف باسم "ساحة شهاب الدين" في الناصرة ولست في باب العودة لتلك القضية التي الحقت الضرر البالغ بالمجتمع العربي في اسرائيل. لا ارى اننا قادرون، بما ترسب من سلبيات وتفكك اجتماعي وتعصب ديني... على النهوض والانطلاق من جديد نحو تعريف هويتنا الوطنية كهوية مركزية والتخلص من الترسبات السلبية التي باتت مدمرة للتكامل الاجتماعي ولتحديد الهوية الأساسية للجماهير العربية في إسرائيل وجعلها نقطة ارتكاز وانطلاق سياسي، اجتماعي، ثقافي ووطني.
ما اراه لألمي وأسفي هو المزيد من التفكك الاجتماعي والسياسي والإنطواء الطائفي، نتراجع بتسارع اراه في منتهى السلبية.. لدرجة اني اسأل نفسي اذا كنا شعبا واحدا او شعبين. ثقافة واحدة او ثقافتين. اجندة واحدة ام اجندات مختلفة.
ما دفعني لكتابة مقالي ما تناقلته أخبارنا المحلية في الأسبوع الأخير من ظواهر لا يمكن للعقل السليم ان يمر عليها وكأنها امرا لا غبار عليه ولا يشكل ظاهرة مقلقة ومدمرة لتواصلنا الاجتماعي والوطني.
مثلا الغاء نشاط ترفيهي في باقة الغربية خوفا من ألفتنة كما جاء في بيانات موقعة باسم حركة اسلامية وتبريرها ان الفعالية لا تتوافق مع الشريعة وما قد يسبب الاختلاط من وقوع النساء في الخطيئة والشرك... (أي ان المرأة لا تملك القدرات العقلية للتمييز بين الخطأ والتصرف ألسليم، والرجل مجرد وحش مفترس للنساء)
لم ينته الأمر هنا.. جرى التعرض في عكا لفرقة "وطن على وتر" ومنع الجمهور من دخول القاعة بحجة ان الفرقة سخرت في عرض سابق لها من الاخوان المسلمين.
واستمرار لهذا التطور اعترضت الحركة الاسلامية في سخنين على عرض فلم ألمخلص ( وسخنين مدينة يعيش فيها ابناء الطائفتين بتوافق ومحبة وآمل ان الحادث لن يغير ما اشتهرت فيه سخنين من تسامح وتعايش يعتبر نموذجا اجتماعيا حضاريا ووطنيا) الفلم يتناول حياة المسيح وسبب الاعتراض لأنه يعتمد قصة الانجيل المسيحي وليس حسب الرؤية الاسلامية للمسيح..
لا تعليق...
عدد من ألمثقفين من مختلف الطوائف ، عالجوا الموضوع ولا اجد ما اضيفه على ما كتبوه من قلق ونقد لهذه التصرفات!
بالمناسبة اسوق ما قاله البابا فرانسوا في تصريح عقلاني له، اكد فيه انه من خلال التواضع والبحث الروحي والتأمل والصلاة، اكتسبنا فهما جديدا لبعض العقائد. قال "ان جميع الأديان صحيحة وعلى حق، لأنها كذلك في قلوب كل الذين يؤمنون بها".
أجل كل الديانات على حق وليس من قرروا انهم يتكلمون باسم السماء!!
اضاف البابا ان "الكنيسة لم تعد تعتقد في الجحيم حيث يعاني الناس، هذا المذهب يتعارض مع الحب اللأمتناهي للإله. الله ليس قاضيا ولكنه صديق ومحب للإنسانية. الله لا يسعى إلى ألإدانة وإنما فقط إلى الاحتضان. ونحن ننظر إلى الجحيم (جهنم) كتقنية أدبية، كما في قصة آدم وحواء. الجحيم(جهنم) مجرد كناية عن الروح ألمعزولة والتي ستتحد في نهاية ألمطاف على غرار جميع ألنفوس في محبة ألله
من المؤسف ما يحدث في مجتمعنا من تراجع نحو التعصب وطوشة في الطريق الى الجنة.
ان قضايا الإنسان (ليس العربي فقط) على وجه الأرض هي المواضيع الهامة، وهي التي تحتاج إلى قدر من الوعي لمعرفة الصواب من الخطأ والصحيح من الضلال، في إقرار مناهج سليمة لإدارة شؤون المجتمع والرقي بالإنسان.
ان اشغال عقول البسطاء بمن سيدخل الجنة (بعضهم يسمون "علماء" وبعضهم حملة شهادات جامعية، لا اعرف اذا تبقى لها قيمة بعد ان يغرقوا بالجواب ألعلمي على "الموضوع ألخطير) هي سحق للعقل العربي وإغراقه بمتاهات لا مخرج لها.
حسب البابا فرانسوا الجنة هي موضوع رمزي، والويل لنا إذا توهمنا بأننا نعرف عنها أكثر مما نعرف عن واقعنا اليومي. إن الطرح الديني جاء من باب الترهيب والترغيب، أي لم يكن دافعا معرفيا، إنما دافعا أخلاقيا.
من المؤسف أن ينشغل عشرات "المثقفين والمتعلمين" بهذا الموضوع "الخطير"، وإعطائه صفة العلم، بينما هو موضوع بائس في مقياس العقل المتنور. ويروقني بهذه المناسبة أن يكون ردي بحكاية سمعتها في روايات عديدة، وها أنا أقدم صيغة جديدة للحكاية بدل الثرثرة بلا معنى:
وقف احد الملائكة ( حامل مفاتيح الجنة) على باب السماء، يستقبل الناس الصالحين الوافدين إلى الجنة. طلب الملاك من الشخص الواقف في الدور: عرف نفسك وأذكر أفعالك. قال الرجل: أنا مسلم سني، فعلت الخير كل عمري، لم أفوت فريضة، لم أرتكب ما يشعرني بتأنيب الضمير. كنت مثالا للإنسان الصالح والمنفذ لكل تعاليم الدين. قال له الملاك بعد أن فحص أوراقه الثبوتية وسجله العدلي: تفضل ادخل واذهب إلى غرفة (168) ولا تلتفت إلى بقية الغرف في الطريق، رغم الضجة والصخب التي في داخلها.
وهكذا دخل الرجل سعيدا إلى غرفة (168) وهو يكاد يطير من الفرح.
وتواصل ادخال الوافدين من ألصالحين
جاء دور مسلم شيعي، فطلب منه ألملاك تعريف نفسه وذكر أفعاله. قال: أنا مسلم شيعي كنت مثالا لطيبة ألنفس لم أرد على ذمي من مخالفي عقيدتي ولم أؤذ أحدا في حياتي والتزمت بتعاليم الدين. فحص الملاك أوراقه الثبوتية وملفه العدلي وقال له: اذهب إلى غرفة (270) ولا تلتفت إلى الغرف الأخرى حيث الصخب والضجيج.
دخل الرجل مليئا بالسعادة، راكضا كالصاروخ إلى غرفة (270).
هكذا قابل الملاك مختلف الناس من طوائف إسلامية عديدة. ثم جاء دور المسيحيين من كل الطوائف؛ لاتين، اورتوذكس، كاثوليك، موارنة، أقباط، سريان، معمدانيين وأتباع مختلف الفلق المسيحية. ثم شهود يهوه والماسونيين، ثم جاء دور البوذيين والمجوسيين، وبعدهم جاء دور الشيوعيين من مختلف فلقهم؛ ماويين، تروتسكيين، ستالينيين، تقليديين وتيارات أخرى يصعب تذكرها. ثم جاء دور القوميين من تيارات مختلفة والشوفينيين على أشكالهم، كان الملاك يرسل كل شخص إلى غرفة مختلفة ويوصيه بعدم الالتفات إلى الضجيج والصخب في مئات الغرف الأخرى التي يتعالى فيها الصراخ والهتافات والغناء وضرب الطبول. بذلك تجاوز عدد الغرف مئات كثيرة لشدة الاختلاف وكثرة العقائد والتحزبات والجمعيات والألوان والأجناس. ثم جاء دور رجل يهودي، فكان هذا الحوار:
- من أنت؟
-أنا يهودي مؤمن وصالح، لم أفعل غير الحق وتنفيذ أوامر الرب بقتل أعدائه فقط.
- اذهب إلى الغرفة (99) ولا تلتفت إلى الغرف الأخرى رغم الصخب والضجيج فيها .
- لماذا الصخب والضجيج ؟
- هذا ليس شأنك.
- لكني ابن الجنة الآن ولا بد أن أعرف ما يدور حولي.
- انتم اليهود دائما حشريون، لا تقنعون بما خصص لكم.. اذهب إلى غرفة (99) وانتهى الأمر.
إلا أن اليهودي أصر بعناد أن يعرف مسألة الغرف الأخرى والضجيج، قال:
لم أقرأ في التوراة أن في الجنة غرفا وصخبا وضجيجا . هذا أمر غريب لا بد من أن توضحه لي. هل من ملحق للتوراة لم يصلنا؟ غضب الملاك من عناده، لكن القرار الرباني حسب التسجيلات في الحاسوب تشير انه من أهل الجنة. قال له: انتم حشريون دائما، أصحابك اليهود من أتباع حاخامك في الغرفة (99) . الغرف الأخرى فيها أبناء طوائف أخرى، بل ويهود من أتباع حاخامات آخرين، بالطبع أعضاء حركات وتنظيمات مختلفة.. وكل مجموعة في غرفتها، تظن أن لا أحد غيرهم في الجنة، لذلك يفرحون ويصخبون ويضجون، يلقون الخطابات والقصائد ، يغنون ويرقصون محتفلين بوصولهم إلى الجنة. أنا لا أريد أن أعكر صفو فرحهم وتوهمهم أنهم الوحيدون في الجنة!
ستذهب الآن من أمامي، أم أرسلك لآخر الدور لتنتظر سنوات حتى تمثل أمامي مرة أخرى؟!