هناك معلومات تشير إلى أنّ المجلس المركزي الذي سيعقِد اجتماعًا بعد غياب طويل سيقوم "بتجديد الشرعيات الفلسطينية"، كما أنّ بعض القيادات وعلى رأسها الرئيس أعلن أنّ المجلس سيقرر "تسليم مفاتيح السلطة"، وكأنّها "بوابة أو شركة"، لأصغر ضابط يمثل الاحتلال، أو للأمم المتحدة، وكأنّ إسرائيل ستستلم السلطة ولن تتركها إلى قيادات محلية وإلى مجموعات مسلحة مختلفة، بحيث تنشب الفوضى وتأكل ما تبقى من قضية ووحدة فلسطينية.
هذا في نفس الوقت الذي يستعد فيه وفد قيادي لزيارة قطاع غزة للاجتماع بإسماعيل هنية والبحث في تطبيق اتفاق القاهرة، وتحديدًا تشكيل حكومة وفاق وطني، وتحديد موعد للانتخابات التشريعية والرئاسية، أو ترك الأمر للرئيس ليقرر به متى يشاء. أما انتخابات المجلس الوطني وإعادة بناء وإصلاح مؤسسات منظمة التحرير، فقد سقطت سهوًا على قارعة الطريق.
توجد تسريبات أن قادة الأجهزة الأمنية الفلسطينية قد أبلغوا نظراءهم الإسرائيليين أنهم وضعوا خطة لتفكيك الأجهزة الأمنية تمهيدًا لتسليم مفاتيح السلطة. هذا في الوقت الذي أعلن فيه الرئيس أنه سيحافظ على التنسيق الأمني مع الاحتلال. كما أن هناك تسريبات بأن دائرة المفاوضات باشرت دراسة حل السلطة!
تمديد المفاوضات أو حل السلطة. تشكيل حكومة وفاق وإجراء الانتخابات أو انتخابات بمن حضر. استكمال التوجه نحو الأمم المتحدة أو بقاء الأمور على ما هي عليه بانتظار "غودو" الذي لن يأتي.
لا ينفع وضع الشتاء والصيف على سطح واحد ونيل الجنة والنار معًا، فإما استمرار الرهان على ما يسمى "عملية السلام" وعلى الإدارة الأميركية بحجة أنها وحدها تملك مفاتيح الضغط على إسرائيل، أو اعتماد إستراتيجيات جديدة تهدف أساسًا لتغيير موازين القوى المختلة بشكل كبير لصالح إسرائيل، بحيث تسمح بتحقيق الحقوق الفلسطينية.
لا ينفع تقديس الوضع الراهن البائس واستخدام كل شيء، بما في ذلك التهديد بالوحدة الوطنية أو بالتوجه إلى الأمم المتحدة أو المقاطعة والمقاومة الشعبية، أو التهديد بحل السلطة وتسليم مفاتيحها كتكتيك للضغط من أجل استئناف المفاوضات وتحسين شروطها، فطريق المفاوضات الثنائية برعاية أميركية ثبت بالدليل القاطع أنه طريق جهنم. طريق أدى إلى تآكل القضية والحقوق والأرض والوحدة الوطنية، ونقطة البداية تكمن في إغلاقه نهائيًا وعدم العودة إليه على الإطلاق.
في ظل غياب الرؤية والإرادة والإحباط والتخبط والحيرة بين المتناقضات يصبح كل شيء ممكنًا ومستحيلًا في الوقت نفسه، ولا يكفي عدم القبول بالعرض الأميركي الإسرائيلي على أهميته، لأن التهديد المتكرر بحل السلطة قد يتحول من مناورة للضغط إلى ضربة يأس لا تحمل أملًا ولا طريق نجاة.
إن الأنظار كلها متوجهة صوب مسألتين:
الأولى والحاسمة، على الجهود الأميركية، وخصوصًا نتائج جولة جون كيري الجديدة، وفيما إذا ستنجح أو ستفشل في التوصل إلى صيغة لتمديد المفاوضات، وستكون في أحسن الأحوال تكرارًا للصيغة التي استؤنفت على أساسها المفاوضات في نهاية تموز الماضي، أي مفاوضات مقابل إطلاق سراح دفعات جديدة من الأسرى، من ضمنهم قادة، إضافة طبعًا لإطلاق سراح الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو.
الثانية والثانوية، نجاح أو فشل وفد المصالحة للاتفاق على تشكيل حكومة، وتحديد موعد إجراء الانتخابات.
إذا لم ينجح كيري لا يعني ذلك بالضرورة إغلاق الباب نهائيًا على خيار "المفاوضات حياة وإلى الأبد"، وإنما قد يعني قفزة نحو تعميق الانقسام بالدعوة إلى إجراء انتخابات بمن حضر من دون قطاع غزة، لا يترشح فيها الرئيس أو يترشح مع نائب له حتى يرحل وقتما يشاء من دون مضاعفات كبيرة لرحيله.
ذلك رغم الادعاء أن قطاع غزة سيشارك تمثيلًا وليس تصويتًا، أو سيشارك في مرحلة استكمالية عندما تسمح الظروف بإجرائها. وربما تجرى الانتخابات من دون القدس، إذا جاء إجراؤها في ظل وقف المفاوضات وتجمع نذر المجابهة، وفي ظل الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرفًا وعنصرية منذ تأسيس إسرائيل، وبالتالي لن تسمح بإجراء الانتخابات في القدس إلا إذا جاءت ضمن عملية سياسية تستفيد منها إسرائيل، من خلال تكريس الانقسام الفلسطيني وتمديد المفاوضات والتوصل إلى اتفاق إطار أو اتفاق انتقالي أو نهائي.
"المكتوب يقرأ من عنوانه"، ويقرأ من خلال استمرار التركيز على الجهود لتمديد المفاوضات، بدليل أن المفاوضات من أجل إنقاذ المفاوضات وتمديدها التي شهدناها في الأسابيع الأخيرة أكثر عددًا وزخمًا من المفاوضات التي شهدناها إبان فترة ما قبل الأزمة الأخيرة، لأن هناك مصلحة لإسرائيل والولايات المتحدة ولجماعات المصالح والنفوذ الفلسطينية لاستمرار خدعة ما يسمى "عملية السلام"، لأن سحبها من التداول سيؤدي إلى بروز خيارات وبدائل وأطراف أخرى، وإلى عزلة إسرائيل ومقاطعتها وصولًا إلى فرض العقوبات عليها.
واذا توقفت المفاوضات ليس بالضرورة أن تنهار "عملية السلام"، بل ستبقى الجهود مستمرة لإنقاذها وإبقائها على قيد الحياة، ولو في غرفة العناية المشددة عبر أنابيب الأكسجين والسيروم. تمامًا مثلما كان الأمر في الأعوام الأخيرة التي سبقت المفاوضات الأخيرة، حيث لم تكن هناك مفاوضات علنية ورسمية، بل كانت هناك مفاوضات سرية أكثر عددًا وزخمًا من العلنية، ولكن كل شيء تقريبًا بقي على حاله، خصوصًا لجهة الالتزام الفلسطيني بالاتفاقيات المبرمة من جانب واحد رغم تخلي الحكومات الإسرائيلية عنها منذ فترة طويلة، ومضيها في تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتقطيع الأوصال والحصار.
طبعًا، من الصعب بقاء الوضع على حاله بعد أن اتضح للقاصي والداني أن المفاوضات الجارية لا يمكن أن تقود إلى حل عادل أو متوازن أو حتى إلى تسوية عرجاء؛ بسبب إصرار إسرائيل على فرض شروطها وإملاءاتها وحلها، وبشكل واضح جدًا رفض قيام دولة فلسطينية ذات سيادة عاصمتها القدس.
إن قيام هذه الدولة أصبح أبعد، ويحتاج إلى إستراتيجيات جديدة وإلى كفاح طويل يجعل الاحتلال مكلفًا جدًا لإسرائيل ، وهذا أمر لا يبدو أن القيادة الفلسطينية والفصائل القائمة يملكون القناعة والقدرة على توفير متطلباته.
كان لا بد أن يسبق اجتماع المجلس المركزي دعوة الإطار القيادي المؤقت الذي يضم الجميع للانعقاد، مع إضافة عناصر جديدة إليه تمثل الشباب والمرأة والشتات، ليبحث أساسًا في كيفية مواجهة التحديات والمخاطر التي تهدد القضية الفلسطينية في عصر الثورات والمستجدات والمتغيرات التي تشهدها المنطقة والعالم كله، وفي ظل حصول الدولة الفلسطينية ولو بصفة "مراقب" على الاعتراف الأممي بعد تصويت 138 دولة لصالحها.
لا يعقل أن تتصرف القيادة الفلسطينية بعد حصولها على هذا القرار مثلما كانت تتصرف قبله، وبالتالي تحوّل القرار إلى قرار لا قيمة له على الإطلاق. والتفكير بالقفر دائمًا بأن الحل يكمن في إجراء الانتخابات التي لا يمكن أن تكون حرة ونزيهة تحت الاحتلال وتكرارها يعطي شرعية له، ويذكي التنافس الداخلي في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى تعزيز وتطوير القواسم المشتركة من أجل خوض مجابهة ناجحة مع الاستعمار الاستيطاني الاحتلالي العنصري.
بعد هذا القرار استمرت السلطة كما هي من دون سلطة ملتزمة بالالتزامات السياسية والأمنية والاقتصادية. في حين وفّر الاعتراف الدولي فرصة لاعتماد مقاربة جديدة مختلفة كليًا تقوم على:
أولًا، تشكيل حكومة دولة فلسطين يشارك فيها الجميع وفق نسب تتناسب مع معايير يتفق عليها، وتشكيل مجلس تأسيسي مؤقت يمكن أن يضم أعضاء المجلسين المركزي والتشريعي وعناصر جديدة تمثل الفصائل والقطاعات غير الممثلة، إلى حين إجراء انتخابات لبرلمان الدولة.
ثانيًا، الإعلان عن وقف العمل بالالتزامات المترتبة على اتفاق أوسلو، وتغيير شكل السلطة ووظائفها لكي تستجيب للمصلحة الوطنية، والدعوة إلى إجراء مفاوضات في إطار دولي مستمر وعلى أساس مرجعية القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة لتجسيد الدولة التي اعتُرف بها وبحدودها وبعاصمتها في القرار الدولي الذي اعترف بدولة فلسطين، بحيث لا يمكن التفاوض على هذه الحدود، بل من أجل تأمين الانسحاب الإسرائيلي منها، من دون ربط ذلك بأي شيء، خصوصًا بإنهاء الصراع والكف عن المطالب وبتصفية قضية اللاجئين عن طريق إفراغ حق العودة من مضمونه.