أبو علي.. قصة فلسطين ومسيرتها الأبدية نحو طريق العودة
في هذه المعركة استشهد أبي؛ أخبرني العم محمد الحمامي "أبو عدنان"، إنه كان يقود الثوار، وأن الصهاينة قد استخدموا مدافع الهاون وبكثرة ولأول مرة؛ فاستشهد الكثير من المناضلين، وطلب من الباقين الانسحاب ووقع العديد من الشهداء المدنيين وقصفت القرية، وظل هو وأبو عدنان يقاتلان حتى الطلقة الأخيرة، فأصيبا في مواقع عديدة من جسديهما، أبي مات، وأبو عدنان ظل ينبض وحسبوه ميتا، حين وصلوا إليهما، أفرغوا رصاصات كثيرة في جثة والدي وهكذا بعد الاستشهاد تأتي عملية الانتقام، انتقام حاقد، ظل ما رواه عمي "أبو عدنان" محمد الحمامي في ذهني، إلا أنه حين توفّـر لي فيما بعد أثناء ممارستي العمل الفدائي أن أحقد، رفضت الحقد، وبقيتُ على مخلصاً للتعاليم الثورية الوطنية التي ترفض ممارسة الحقد.
خلسة ذهب عمي يوسف والعم عبد السلام زيدان والعم عبد القادر أبو هاشم وآخرين لإحضار جثمانه من أرض المعركة، واستقبلت بشيت شهيدها، حيث دفن في مقبرة مقام ديني قديم، يعتبره أهل القرية مقدساً، ويعود كما تقول الأسطورة إلى النبي شيت أبن آدم (الثالث)، وإليه يعود أسم القرية "بيت النبي شيت"، لكنه في العامية بشيت؛ لا زال قبر أبي هناك، في ذلك المقام الديني القديم.
كانت عملية "داني" الإسم الرمزي الموحي بالبراءة للهجوم على مدينتي اللد والرملة الواقعتين في منتصف الطريق بين يافا والقدس؛ في 10 تموز/ يوليو من عام 1948 عيّن بن غوريون يغال ألون قائداً للهجوم على مدينتي اللد والرملة، وإسحق رابين نائباً له وأمر ألون بقصف المدينة من الجو وكانت أول مدينة تهاجم على هذا النحو، وتبع القصف هجوم مباشر على وسط المدينة، تسبب بمغادرة بقايا متطوعي جيش الإنقاذ المرابطين بالقرب من المدينة التي تلقت الأوامر بالانسحاب من قائدها البريطاني غلوب باشا.
إثر تخلي المتطوعين وجنود الفيلق العربي عن سكان اللد احتمى رجال المدينة المتسلحين ببعض البنادق العتيقة، بمسجد دهمش وسط المدينة، وبعد ساعات من القتال نفدت ذخيرتهم واضطروا للإستسلام، لكن القوات الصهيونية المهاجمة أبادتهم داخل المسجد المذكور.
بدأ الهجوم الصهيوني على اللد والرملة يوم 9/7/1948، وسعى الصهاينة إلى عزل المدينتين عن أي مساعدة تأتي من الشرق، فتقدم إلى شرقي اللد والرملة لواءان أحدهما من الجنوب، حيث دخل قرية (عنّابة) في الساعة الواحدة من فجر 10 تموز/ يوليو ثم قرية جمزد، وثانيهما من جهة تل أبيب في الشمال الغربي، وقد احتل هذا اللواء (ولهمينا) ثم مطار اللد، وباحتلاله عزلت سرية الجيش الأردني في (الرملة والعباسية واليهودية)، وهكذا اكتمل تطويق المدينتين وعزلهما ولم يستطع المقاتلون في القرى المذكورة ومطار اللد الصمود أمام الهجمات من قبل الدبابات والمدفعية المنسقة.
تعرضت المدينتان في أثناء ذلك لقصف جوي ثقيل وجه إلى مركز شرطة الرملة خاصة، وإلى قصف مدفعي شمال الأحياء الآهلة بالسكان؛ استمر ضغط الصهاينة على امتداد واجهة القتال وركزوا هجومهم على مدينة اللد أولاً، فشنّوا عند الظهر هجوماً قوياً عليها من الناحية الشرقية عند قرية دانيال، لكن مجاهدي المدينة استطاعوا أن يصدّوا الهجوم بعد معركة دامت ساعة ونصف خسر الصهاينة فيها 60 قتيلاً، وعاد المجاهدون وقد نفد عتادهم؛ ثم شن الصهاينة هجوماً آخر بقوات أكبر تدعمها المدرعات وتمكنوا في الساعة 16 تقريباً من دخول اللد واحتلالها وهم يطلقون النار على الأهالي دون تمييز.
بعد ذلك اخترقت فصيلة تابعة للجيش الأردني مدينة اللد التي كانت قد استسلمت للكتيبة الثالثة التابعة للواء يفتاح في البالماح؛ وفي أعقاب الاختراق ارتفعت معنويات سكان المدينة، ومن أجل إخمادهم ومنعهم من التحرك، صدرت الأوامر للإرهابيين الصهاينة بإطلاق النار الكثيفة على جميع من وجد في الشوارع؛ وخلال بضع ساعات وبموجب تقدير قائد اللواء في المعركة أنه قتل 250 فلسطينياً؛ فكانت أبشع مجزرة وأسرعها وقتاً، غير أن الإعلام العربي لم يركز عليها.
وفي تقريره الذي قدمه مولاي كوهين عن المجازر التي وقعت في مدينة اللد اعترف فيه بوجود فظائع كئيبة، ودوّن ذلك في كتاب البلماح: لا شك في أن قضية اللد والرملة وهرب السكان والتمرد الذي جاء في أعقابها قد وصلت فيها وحشية الحرب إلى ذروتها. ضحايا المجازر من مدينتي اللد والرملة في تقديرات نهائية للمجزرة بلغ عددهم 426 شهيداً منهم 176 قتيلاً في مسجد دهمش في المدينة، وفي رواية أخرى بلغوا 335 شهيداً 80 منهم في مسجد دهمش.
عالم الاجتماع "سليم تماري" نشر في مجلة الدراسات الفلسطينية نقلاً عن شهود مجزرة اللد منهم (إسبر منيّر) الذي كان يعمل ممرضاً مع الدكتور جورج حبش وصف المجزرة في جامع دهمش وحالات الطرد الجماعي لخمسين ألف فلسطيني في مدينتي اللد والرملة وحالات النهب والسرقة والجثث المكوّمة على الطرقات والجرحى الذين كانوا يحضرون ولا مسعف لهم.
"كيث ويلر" من صحيفة شيكاغو صن تايمز كتب: عملياً كل شيء في طريق القوات الإسرائيلية أدركه الموت في مدينة اللد، حيث كانت تقبع على جانبي الطريق جثث مثقوبة بالرصاص. أما "كينيث بيلبي" من صحيفة نيويورك هيرالد تريبيون قال إنه شاهد جثث رجال ونساء وأطفال عرب متناثرة هنا وهناك في أثر هجوم متألق لا رحمة فيه.
حزنا ورثاء لنكبتنا كتب الشاعر لطفي الياسيني بكائية على قرى قضاء الرملة المدمرة عام 48
يا ريح سلم لي .......على ابو الفضل
على ابو شوشة .. البرج بيت سوسين
على ادنبة ..... برفيليا ...... ام كلخة
البرية ..... على بشيت ..... ام معين
على بيت جيز ....... على بيت شنة
على بيت نبالا .... على وادي حنين
سلم ع التينة ......... خربة بيت فار
على جليا ... على جلجوليا سيرين
سلم على خلدة .... سلم على دانيال
على دير ايوب .... زرنوقة ونمرين
على سلبيت ... شلتا ..... على شحمه
على صرفند ...... على دير ياسين
على دير طريف على دير محيسن
صرفند العمار ... سلم على صيدون
عاقر .... عنابة .. القباب.. القبيبة
قزازة ... فطرة اسلام .. وحطين
قولة ( قولية ) - الكنيسة - المخيزن -
على المغار - المنصورة - نعلين
على النعاني .. المزيرعة على جلدة
جمزو .... عجنجول .. ع النبي روبين
على بيت قار .. سجد .. مجدل يابا
على يبنا على الرملة على زرعين
على فلسطين .... شرقها مع غربها
على الشمال .... سلم على سخنين
على عرابة ........ سلم على غربها
على ام العمد .... مسحة ... عبلين
على ابو سنان .... يركا على الرامة
وادي سلامة ..... على فلسطين
ثالثاً: اللجوء إلى غزة .
يواصل أبو علي شاهين سرد قصة لجوئه مع من تبقى من العائلة إلى غزة، بحثا عن مساحة أمان من جرائم العصابات الصهيونية فيقول:
بعد أن تجاوزنا بلدة يبنا سيراً على الأقدام عبرنا وادي سكرير(صقرير)، كنت فرحاً وأنا أخطو على الرمل الناعم، والماء رقراق، لم أكن أعرف أنني أهاجر، ووصلنا إلى أسدود، في أسدود أذكر الجيش المصري هناك، كان الجنود ينادونني وأقراني يعطوننا خبزاً وحلاوة، فيما بعد حدثت معركة أسدود الأخيرة، مازلت أذكرها حتى الآن، أتذكر الرصاص في الليل وهو يضيء الفضاء، أخذنا عمي أحمد واتجهنا نحو الغرب، حيث وصلنا شط البحر، ومن هناك إلى الجوره أو عسقلان، عسقلان البحر، وفي عسقلان كنا نتمنى أن نرى الخبز، فليس غير التمر طعاماً، تمر مليء بالسوس، أذكر في عسقلان أن أطفالاً كثيرين كانوا يموتون، لم أكن أفهم آنذاك لماذا يموتون، إلا أنني الآن أذكر كم كانوا يموتون! حين كبرت عرفت أن أطفالنا كانوا يموتون من الجوع وإنعدام العناية الصحية، فأي مرض يصيب ألاطفال كانت مضاعفاته تؤدي إلى الموت.
بدأت الجيوش العربية تأخذ السلاح من المناضلين، وتعطيهم إيصالاً بذلك، لقد جردوا الفلسطينيين إذن من الأسلحة، وكانت الطائرات تأتي وتقصف، أذكر أن طائرة وقعت في البحر، والطيار اسمه أبو زيد وهو من الضباط المصريين الأحرار، عرفت ذلك فيما بعد من كتاب ( لطفي واكد)، وعرفت أنه من الطيارين القلائل الذين استطاعوا أن يصلوا إلى تل أبيب ويقصفوها من مطار العريش، بعد ذلك وصلنا غزة مروراً بالمجدل.