في كثير من الحالات يتم الخلط بين النظرية وتطبيقها أو المبدأ وتطبيقاته بحيث يتم تحميل النظرية أو المبدأ وزر أخطاء التطبيق ،أو أن يُنسب تطبيق أو سلوك لنظرية أو مبدأ وهما براء منه.هذه الالتباسات موجودة في كثير من المجتمعات ولكنها أكثر حضورا في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ،ومن أبرز تجليات هذه الحالة تحميل الإسلام مسؤولية أخطاء المسلمين أو الجماعات الإسلامية، وتحميل الفكر القومي مسؤولية أخطاء أنظمة وظفت القومية لمصالحها الفئوية والسلطوية بل والشعوبية ، وتحميل الوطنية أوزار وأخطاء أنظمة وأحزاب صادرت الوطنية، والتشكيك بمبدأ الثورة نتيجة أخطاء وانحرافات بعض من ركبوا موجة التحركات الشعبية الموسومة بالربيع العربي، وهجر الديمقراطية نتيجة ممارسات أنظمة تنكبت الصواب في ممارستها للديمقراطية الخ .
وفي الحالة الفلسطينية نماذج لهذه الحالة مثلا : تحميل مبدأ وفكر مقاومة الاحتلال وهي مشروعة حسب كل الشرائع الدينية والدنيوية وزر وأخطاء ممارسة جماعات جهادية أو مسلحة ، وتحميل مبدأ السلام وحتى التسوية السياسية مسؤولية فشل مشاريع ومبادرات ومؤتمرات تزعم أنها مبادرات ومشاريع سلام ، وتحميل المفاوضات كمبدأ أو آلية مشروعة لحل النزاعات مسؤولية مفاوضات عبثية غطت ديمومتها على ممارسات الاحتلال من استيطان وتهويد .
هذه المقاربة تنطبق أيضا على السلطة الوطنية الفلسطينية حيث يتم الخلط ما بين مبدأ وجود سلطة وطنية فلسطينية تدير أمور الفلسطينيين وتشرف عليهم في نطاق ما هو متاح لهم من ارض ، وهو هدف ومطلب وطني سابق على اتفاقية أوسلو، وما آل إليه حال السلطة القائمة – السلطتان - في الضفة الغربية وقطاع غزة الناتجة عن اتفاقية أوسلو من ترد أدى إلى أن يتحدث قادتها ورموزها علنا عن حلها أو إعادة النظر في استمرارها ووظائفها .
لسنوات طوال ومع استمرار الوضع المالي للسلطة في التأزم لدرجة عجزها في بعض المراحل عن دفع الرواتب لموظفيها ومع استمرار حالة الفقر والبطالة كان الحديث يدور حول إصلاح السلطة إداريا وماليا ، و بعد توقف المفاوضات نهاية عام 2009 وتزايد الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية وتكريس حالة الانقسام ما بين الضفة وغزة مع فشل محاولات تحسين الوضع الاقتصادي ، تم الانتقال من الحديث عن إصلاح السلطة إلى التفكير الجاد بحل السلطة وهو حديث لم يقتصر على بعض المثقفين والكتاب بل تطرق إليه الرئيس أبو مازن نفسه ولو بطريقة غير مباشرة في اجتماع المجلس المركزي لمنظمة التحرير في دورته 26 بتاريخ 26/04/2014 .
سبق وأن طالبنا منذ عام 2006 بالتفكير الجاد بحل السلطة ولكن بعد أن تتم تهيئة المؤسسات والمرجعيات التي ستملأ فراغ انهيار أو حل السلطة حتى لا يكون بديل السلطة الفوضى أو حكم الميليشيات المسلحة أو كانتونات تديرها إسرائيل عن بُعد، وقلنا بأن المطلوب ليس قرارا مرتجلا بحل السلطة بل المطلوب إعادة النظر بوظائف السلطة ومرجعيتها وقيادتها وخصوصا بعد القرار ألأممي بالاعتراف بفلسطين دولة مراقب. ما كان لهذه الأصوات أن ترتفع لولا الإحساس بأن استمرار السلطة على حالها يخفي حقيقة وجود الاحتلال وممارساته الاستيطانية حيث مقابل كل دولار يَرِد للسلطة وكل يوم يمر على مفاوضات بدون مرجعية أو أهداف واضحة يكون مقابله شبر ارض تستولي عليه إسرائيل.
لم يصبح الحديث عن مستقبل السلطة حديثا جادا ومحل تداول أصحاب القرار إلا خلال العامين الماضيين وتسارعت وتيرته في ربيع 2014 عندما التقت ثلاثة أحداث:
1- اعتراف الجمعية العامة للأمم بفلسطين دولة مراقب بأغلبية 138 صوتا نهاية عام 2012 . هذا الاعتراف ألأممي بفلسطين دولة غير عضو – مراقب- يعتبر مؤشرا على تحولات في الموقف الدولي تجاه الصراع في المنطقة ، كما أنه عكس حالة من القناعة لدى غالبية شعوب العالم بأن الصراع في المنطقة لن يتم حله إلا في حالة قيام دولة فلسطينية مستقلة. كما أن القرار أثار جدلا داخليا غير مسبوق حول قضايا إستراتيجية، كمرجعية النظام السياسي الفلسطيني وموقع السلطة فيه وموئل صناعة واتخاذ القرار الوطني بعد الاعتراف بفلسطين دولة ،كذلك مستقبل السلطة الفلسطينية التي قامت تنفيذا لاتفاقية أوسلو.
2- وصول جولة المفاوضات التي باشرها كيري في أغسطس 2013 إلى نهايتها مع نهاية أبريل 2014 دون تحقيق أي تقدم. فشل هذه الجولة من المفاوضات وما ترتب عليه من تقديم طلبات عضوية لمنظمات دولية وتحريك ملف المصالحة الوطنية لا يعني مغادرة نهج التسوية السلمية وحتى التخلي عن مبدأ المفاوضات ، بل يعني أنه في حالة العودة للمفاوضات فستعود على أسس جديدة،ونعتقد أنه سيتم العودة للمفاوضات حيث كل الأطراف غير راغبة وغير قادرة على تحمل استحقاقات فشل التسوية السياسية والدخول في مواجهة مسلحة أو انتفاضة فلسطينية مما يعني أن السلطة ستستمر لحين من الزمن.
3- تحرك ملف المصالحة الوطنية بعد لقاء مخيم الشاطئ في غزة يوم 23 أبريل 2014 ،ففي حالة تشكيل حكومة تكنوقراط فمن المرجح أن تكون حكومة سلطة وطنية ملتزمة بالسلام وبإسرائيل وهو ما أكد عليه الرئيس الفلسطيني في اجتماع المجلس المركزي . ولا نعتقد أن المصالحة كما وردت بنودها في اتفاق المصالحة سواء في القاهرة أو الدوحة تتعارض ولو مرحليا مع استمرار سلطة الحكم الذاتي ، وفي ظني أن نجاح المصالحة سيعزز نهج المفاوضات وسلطة الحكم الذاتي ولن تكون بديلا عنهما إلى حين قرار إجراء انتخابات لرئيس ومجلس تشريعي لدولة فلسطين .
هذه الأحداث دفعت الرئيس أبو مازن في خطابه الأخير أمام المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى الحديث الصريح عن عدم جدوى الاستمرار في الوضع الحالي للسلطة ضرورة البحث في مستقبلها ليس بالضرورة لأنها فشلت بل لأنها استنفذت أغراضها ولا يمكن أن تستمر السلطة إلى ما لا نهاية دون قدرة على تحقيق انجازات وطنية ذات أهمية سوى دفع رواتب الموظفين والقيام بأعباء ومسؤوليات إعاشة الفلسطينيين وهم تحت الاحتلال وهي مهمة من مهمات الاحتلال .
تزامن هذه الأحداث الثلاثة وضع السلطة الفلسطينية على المحك كما وضعت الرئيس أبو مازن كرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية صاحبة القرار بتأسيس السلطة الوطنية والمسؤولة عن ملف المفاوضات والمبادرة بالذهاب للأمم المتحدة أمام مفترق طرق :
1- إما العودة للمفاوضات مع تحسين وتقوية وضع المفاوض الفلسطيني من خلال المصالحة الوطنية وعضوية مؤسسات دولية وتحديد مرجعيتها، وهذا معناه الحفاظ على السلطة الوطنية مع تغيير بعض قواعد اللعبة بين الفلسطينيين والإسرائيليين ،وهذا يعني أن الانتخابات القادمة ستكون لرئيس سلطة الحكم الذاتي ولمجلس تشريعي لسلطة الحكم الذاتي كما أن الحكومة ستكون حكومة سلطة حكم ذاتي .
2- أو مغادرة كل الحالة السابقة بما فيها المفاوضات في إطار اتفاقية أوسلو ولواحقه واستحقاقاته ، والانتقال من حالة سلطة حكم ذاتي لسلطة دولانية تستمد شرعيتها من القرار الأممي بدولة فلسطين وليس من أوسلو، ويترتب على ذلك أن الحكومة القادمة يجب أن تكون حكومة دولة والانتخابات ستكون لرئيس دولة فلسطين ولمجلس تشريعي للدولة الفلسطينية.
إلى الآن لا يبدو أن القيادة حسمت أمرها بالتخلي عن المفاوضات والاتفاقات الموقعة ليس لغياب الإرادة في الانتقال إلى الدولة بل لغياب القدرة أو الخوف من تداعيات قرار بحل السلطة أو دولنتها بدون موافقة إسرائيلية وأمريكية على أوضاع الفلسطينيين في الضفة وغزة ، وإمكانية إقدام إسرائيل على خطوات أحادية كضم مناطق من الضفة لإسرائيل أو انسحاب أحادي الجانب من بعض مناطق الضفة دون تمكين السلطة أو أي جهة رسمية فلسطينية تحل محلها من الإشراف على هذه المناطق، أيضا عدم ضمان موقف أمريكي وأوروبي بل وعربي داعم لهذا الموقف الفلسطيني.
بالرغم من كل الانتقادات الموجهة لأداء السلطة ومع التأكيد بضرورة وضع حد للدور الوظيفي التي كانت تؤديه السلطة - فعشرون عاما أكثر من كافية للحكم بأن استمرار السلطة الفلسطينية على حالها لم يعد يخدم الفلسطينيين بل أوصلتهم إلى أوضاع مزرية - بالرغم من كل ذلك فقد حقق الفلسطينيون خلال سنوات السلطة منجزات يجب الحفاظ عليها، كوجود مؤسسات وطنية وكوادر مدربة ومنظومات قانونية ومنهج تعليم فلسطيني وأجهزة أمنية مدربة – مع الحاجة لتغيير عقيدتها العسكرية - وعلاقات مع دول العالم الخ ، وهي أمور ستساعدهم عند الانتقال إلى مرحلة بناء الدولة .
سواء عاد الفلسطينيون إلى طاولة المفاوضات بمرجعيتها السابقة أو بمرجعيات جديدة ، وحتى في حالة الاستمرار في التوجه لاكتساب مزيد من العضوية في المنظمات الدولية ... فإن السلطة ستستمر لحين من الزمن ولا نعتقد أن من الحكمة حل السلطة قبل ضمان بديل وطني يملأ الفراغ . وعليه يصبح المطلوب التفكير الجاد بتغيير وظائف السلطة لتقترب وتتجاوب أكثر مع الوضع الجديد الناتج المنجزات على صعيد الشرعية الدولية والمصالحة الوطنية وعن اتضاح حقيقة أن إسرائيل لا تريد الانسحاب من الضفة وغزة والالتزام بالاتفاقات الموقعة بهذا الشأن.
لأن المرحلة القريبة ليست مرحلة حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بل مرحلة إدارة أزمة ، ولا نعتقد أو نتمنى أن تُقدِم القيادة الفلسطينية على أي تسوية نهائية في ظل موازين القوى الراهنة والوضع العربي والإقليمي، لكل ذلك فمن المتوقع أن يستمر الفلسطينيون في الضفة الغربية في العيش في ظل سلطة فلسطينية لحين من الزمن، وهذا يتطلب إدخال تغيير على وظائف السلطة وأهدافها وعلاقاتها . مع التذكير بأن الفلسطينيين تحدثوا عام 1974 عن استعدادهم لقبول سلطة وطنية مقاتلة على أي جزء من ارض فلسطين يتم تحريره أو يمنح لهم بمقتضى تسوية سياسية .
لأن الخلل لم يكن في مبدأ وجود سلطة وطنية فلسطينية بل في وظائفها ورموزها ومرجعيتها ،فإن المطلوب اليوم التحرر بالتدريج من التزامات السلطة الفلسطينية المترتبة عن اتفاقية أوسلو وتوابعها ما دامت إسرائيل نفسها لم تلتزم بما عليها من استحقاقات بمقتضى هذه الاتفاقات . في هذا السياق يمكن فتح ملف التنسيق الأمني، فهذا التنسيق الذي يخدم الأمن الإسرائيلي بشكل كبير دون حماية امن الفلسطينيين كشعب ولا أمن السلطة الفلسطينية بل كان سببا في توتير الجبهة الفلسطينية الداخلية ، يجب إعادة النظر به ورهن أي خطوة في سياقه بالتزام إسرائيل بما عليها ، دون أن يعني ذلك وقف التنسيق نهائيا ومرة واحدة إلا إذا رغبت إسرائيل بذلك، والكل يعلم أن إسرائيل كانت تبرر التنسيق الأمني بأنه يخدم الطرفين من خلال مواجهته للجماعات الإرهابية أو المعادية للسلام أو الزعم أن التنسيق الأمني يخدم السلطة لأنه يمنع حركة حماس من التواجد في الضفة وإمكانية سيطرتها على السلطة ! والآن انكشفت الحقيقة بأن إسرائيل - الدولة ومستوطنوها- هم من لا يريدون السلام ومن يمارسون الإرهاب ، كما أن اتفاق المصالحة الفلسطينية وقبله الهدنة التي وقعتها حركة حماس مع الإسرائيليين برعاية وضمان الرئيس المصري محمد مرسي وما طرا على حركة حماس من تغيرات، كل ذلك يبطل من أهمية فزاعة حركة حماس .
أيضا يمكن إعادة النظر بشكل متدرج بالعلاقات الاقتصادية بين السلطة وإسرائيل وبين القطاع الخاص الفلسطيني وإسرائيل ، وفي هذا السياق يجب التعامل بحزم مع رجال أعمال فلسطينيين يتعاملون مع نظرائهم الإسرائيليين بل ومع رجال أعمال من المستوطنات،وللأسف فإن رجال أعمال كبار ويبرزون على المشهد السياسي يقفون على رأس المتعاملين الماليين والتجاريين مع الإسرائيليين بل ويفتحون الأسواق الفلسطينية والعربية أمام المنتجات الإسرائيلية بما فيها منتجات المستوطنات .