عندما يُحيي الفلسطينيون للمرة السادسة والستين ذكرى ما أصطُلِح على تسميته بالنكبة من خلال مسيرات ومهرجانات وخطب وشعارات وآمال الخ ، قد يبدو الأمر بالنسبة للبعض وكأنه حدث يدخل في حيز الروتين والتكرار الممل والعمل الإعلامي الذي لا يغير من الواقع شيئا ،هذه القراءة السطحية قد تجد ما يدعمها ما دام اللاجئون لاجئين بل وتزداد أمورهم صعوبة حيث يتم تهجيرهم مرة أخرى على يد عرب إلى أماكن أكثر بعدا عن أرضهم ووطنهم مع جرائم لم ترتكب مثلها العصابات الصهيونية – فلسطينيو العراق ولبنان وسوريا- ، وتجد ما يدعمها ما دامت إسرائيل تحتل الأرض وتعمل على تغيير معالمها وهويتها وتحاول فرض روايتها التاريخية سواء القديمة أو الحديثة عن تاريخ اليهود وفلسطين ماضيا ،وذكرى (استقلال دولة إسرائيل) ويهوديتها حاضرا .
ولكن خلف هذه القراءة السطحية والسلبية والتي لا تخلو من شعور بالإحباط واليأس ،تكمن الحقيقة الموضوعية والقراءة الإستراتيجية العقلانية والتي يفهمها ويخشاها الإسرائيليون كثيرا . الحقيقة تقول إن الثمانمائة ألف لاجئ فلسطيني الذين هجرتهم إسرائيل قبل ست وستين عاما أصبحوا اليوم حوالي ستة ملايين لاجئ نصفهم تقريبا ما زالوا يعيشون داخل فلسطين – في الضفة الغربية وقطاع غزة – وهم وإخوتهم من بقية المواطنين الفلسطينيين بالإضافة إلى فلسطينيي الخط الأخضر على وشك أن يمثلوا أغلبية ساكنة فلسطين الانتدابية ، والحقيقة تقول إن كل المحاولات والحروب والجرائم الإسرائيلية طوال ست وستين سنة لم تلغ وجود الشعب الفلسطيني ولم تثن اللاجئين عن الاستمرار بالمطالبة بحقهم في العودة إلى وطنهم وقراهم ، والحقيقة تقول إن اعتقاد الصهاينة أنهم شطبوا فلسطين والفلسطينيين من الخارطة السياسية اعتقاد خاطئ حيث استمرت فلسطين والفلسطينيون على الخارطة السياسية وفي الضمير العالمي من خلال ثورة منتصف الستينيات وهي الثورة التي دفعت الأمم المتحدة إلى الاعتراف بفلسطين والشعب الفلسطيني من خلال اعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا للشعب الفلسطيني عام 1974، واليوم تعود فلسطين الدولة إلى الخارطة الدولية حتى وإن كانت دولة على جزء من أرض فلسطين، والحقيقة تقول بأن اللاجئين الذين تم إجبارهم على ترك بيوتهم وأراضيهم كانوا مفجري العمل الفدائي المسلح الذي حول كل مخيم للاجئين إلى قاعدة من قواعد الثورة الفلسطينية .
نعم ، أن يحافظ اللاجئون الفلسطينيون على صفتهم كلاجئين وعلى حقهم في العودة بالرغم مما تعرضوا لهم من ويلات ومصائب وتآمر ليس فقط على يد الصهاينة بل وعلى يد من يُفتَرض أنهم أخوة وأشقاء ،شيء يستحق التقدير والاحترام. لقد دفع الفلسطينيون ثمن خطأ ليس خطأهم وهزيمة ليست هزيمتهم وحروب ليست حروبهم ، وهنا يجب أن نُذَكِر دوما أن الفلسطينيين يدفعون ثمن هزيمة سبع جيوش عربية في حرب 1948 حيث أدت الهزيمة لفقدان ثلثي أرض فلسطين،ثم دفعوا مرة أخرى ثمن هزيمة العرب في حرب 1967 حيث فقدوا بقية فلسطين،حتى الانقسام الذي حدث في يونيو 2007 ما كان أن يكون لولا تآمر إسرائيلي أمريكي مع أطراف عربية وإسلامية في سياق ما يسمى الشرق الأوسط الجديد ، دون أن نسقط من الحسبان أخطاء الفلسطينيين أنفسهم وهي ليس في فداحة الأخطاء العربية .
مع ذلك لم يستسلم الفلسطينيون أو يستكينوا بالرغم من كل ما يظهر على السطح من خلافات وانقسامات فلسطينية داخلية وبالرغم من انشغال البعض بالسلطة والمناصب وهم تحت الاحتلال ،فهذه أمور لا تغير ولا تبدل من الجوهر الأصيل للإنسان الفلسطيني الذي ينتفض دوما من تحت الرماد ، وهذا سر استمرار الشعب الفلسطيني منذ أكثر من أربعة آلاف سنة بالرغم من تعاقب أشكال متعددة من الاحتلال والهيمنة والتبعية على ارض فلسطين.
ست وستون سنة ليس بالزمن الطويل في تاريخ الشعوب والأمم،فمنذ انهيار المعسكر الاشتراكي حتى اليوم استعادت كثير من الشعوب حضورها السياسي والوطني بعد عقود من التغييب القسري، وحتى لا نذهب بعيدا فإن الصهاينة أنفسهم عندما يحيون في ذكرى نكبتنا ما يسمونه (عيد الاستقلال) إنما يعتقدون أنهم يعيدون حضورهم السياسي بعد ثلاثة آلاف سنة من اندثار دولتهم المزعومة . الأرض قد يتم احتلالها والشعوب قد يتم إخضاعها بالقوة في ظل توازنات قوى قاهرة،ولكن المهم أن يستمر الشعب متمسكا بروايته التاريخية في مواجهة الرواية الصهيونية اليهودية ، وأن يستمر متمسكا بهويته وثقافته الوطنية بل وتحويلهما إلى معتقد وعقيدة سياسية تُرقى لدرجة الدين من حيث التمسك بهما،فالهوية والثقافة الوطنية ضمان الشعب حتى لا يندثر .
اليهود يدركون جيدا حقيقة أنهم يتعاملون مع شعب موجود على أرضه فلسطين منذ أكثر من أربع آلاف سنة ولا يعرف الفلسطينيون لهم أصول أو أوطان غير فلسطين ، واليهود يدركون أكثر من غيرهم أنهم عندما جاءوا إلى فلسطين وجدوا الفلسطينيين هناك وهذا ما تقوله كتبهم الدينية حيث ذكرت التوراة في أكثر من موضوع أنهم عندما جاءوا إلى فلسطين لأول مرة وجدوا الفلسطينيين هناك ،بينما الإسرائيليون في فلسطين لمم ولقطاء من شعوب ومجتمعات عديدة لا تربطهم بفلسطين إلا رابطة دينية واهية وتفوق عسكري معرض للتلاشي مع أي تغير في العلاقات والتوازنات الدولية .
بالتالي فإنه من العبث تجاهل حقيقة وجود الشعب الفلسطيني وحقه في دولة على أرضه وهو ما بات العالم يعترف به من خلال اعتراف 138 دولة بحق الفلسطينيين بدولة مستقلة خاصة بهم ،ومن خلال حملات المقاطعة الأوروبية لمؤسسات ومنتجات إسرائيلية،حتى مسئولون أمريكيون أمثال جون كيري باتوا يحذرون الإسرائيليين من تجاهل الاعتراف بالحقيقة الفلسطينية، فإن لم يعترفوا بها ككيان ودولة على جزء من ارض فلسطين فسيواجهونها حقيقة تفرض نفسها كأمر واقع وتمتد على كل ربوع فلسطين من رفح جنوبا إلى رأس الناقورة شمالا .
وأخيرا يجب تذكير اللاجئين الفلسطينيين أنهم كانوا مفجري الثورة وفي موقع الريادية في العمل النضالي ولولا معاناة اللجوء والتشرد ما انطلقت الثورة الفلسطينية المعاصرة ولذا كانت ريادية اللاجئين للثورة الفلسطينية في المخيمات وخصوصا مخيمات الشتات ولولا هذه الريادية لسقط حق العودة وتم نسيان النكبة، وعلى اللاجئين أن يواجهوا بشجاعة محاولات إجبارهم على إسقاط حق العودة أو دفعهم للهجرة بسبب حروب أهلية عربية أُقحموا في آتونها دون إرادتهم، وأن يتصدوا لكل محاولات تهميشهم السياسي وأن يعودوا مجددا على رأس العمل النضالي في مختلف المواقع القيادية سواء داخل منظمة التحرير وحركة فتح وبقية الفصائل أو على مستوى التمثيل الدبلوماسي الخارجي ،لأن العالم ما زال يُقرن القضية الفلسطينية بحق العودة وباللاجئين.