كم قاصرة تلك الدعوة التي يطلقها بعض الأحزاب والسياسيين والشخصيات "الوطنية والماركسية" الفلسطينية، وعنوانها "يا وحدنا"، منطلقين بأن الصراع الدائر على أرض فلسطين، هو صراع فلسطيني – إسرائيلي فقط، ولا "دخل" للعرب به، وعليه فلنُقلّع "شوكنا" بيدنا، وعليه فليس للعرب أن يتدخلوا بشؤوننا وكذلك ليس لنا أن نتدخل بشؤونهم.
إن قصور الدعوة تلك، منطلقها قصور الرؤية لدى تلك الأحزاب والسياسيين والشخصيات التي لا تتأسس على فهم حقيقي لطبيعة وجوهر المشروع الصهيوني القائم على أرض فلسطين فعلاً، وبكونه غير معني بفلسطين فقط، بل هو معني بكل الوطن العربي، نهباً لثرواته وموارده وإمكاناته والسيطرة على مقدراته وإدامة تبعيته السياسية والاقتصادية واحتجاز تطوره، خدمة للاستعمار والإمبريالية العالمية قديماً وحديثاً بريطانيا وفرنسا من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً من جهة أخرى. وهنا من المفيد التذكير بالتالي (على سبيل المثال لا الحصر):
- فرنسا وعلى لسان نابليون بونابرت وبعد هزيمته على أسوار عكا، أواخر القرن الثامن عشر، كان أول من دعا لاستيطان اليهود في فلسطين.
- فرنسا وبريطانيا أول من وفروا دعماً واحتضنوا الحركة الصهيونية، وأمدوها بكل عناصر الاستمرارية وحرية الحركة وعوامل القوة، وهيئوا لها عقد أول مؤتمر صهيوني في بازل بسويسرا عام 1897م.
- بريطانيا وفرنسا من هيأ للحركة الصهيونية الطريق للاستيطان في فلسطين، منذ عام 1882م، في الوقت الذي كان فيه مجال أن يقيموا "دولتهم الصهيوينة" في الأرجنتين أو أوغندا التي وافقت الحركة الصهيونية أن تكون مكان لإقامة الدولة.
- فرنسا وبريطانيا من وضع أولى ركائز الوجود الصهيوني في قلب الوطن العربي (فلسطين)، عندما خطوا تقسيم الوطن العربي (سايكس بيكو) عام 1916م، بقلم رصاص لكن يعرف بالضبط ما يريد!!.
- بريطانيا وبمباركة فرنسا من أعطت الحركة الصهيوينة، وعدها المشهور (تصريح) بلفور، بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين.
- بريطانيا من وفر للحركة الصهيونية لأن تقيم مؤسسات "دولة" – الوكالة اليهودية والصندوق القومي والجيش، الهاغاناه وشتيرن والأرجون - من قبل أن تُعلَن رسمياً عام 1948م.
- بعد أفول نجم كل من بريطانيا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م، وصعود نجم الولايات المتحدة الأمريكية، استمرت في رعايتها ومساندتها ودعمها للحركة الصهيونية وقاعدتها في الوطن العربي "إسرائيل"، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وأمنياً، الأمر الذي لم يتوقف عند حدود العلاقة الرسمية، للدرجة التي أضحت فيها "إسرائيل" الولاية الأمريكية رقم (51)، وإلا ما معنى العديد من القرارات التي اتخذتها أمريكا بخصوص علاقتها مع "إسرائيل" وَسُنَ جزء ليس قليل منها كقوانين من قبل الكونجرس الأمريكي ومطلوب من كل الحكومات الأمريكية ديمقراطية كانت أو جمهورية أن تلتزم بها. وما معنى أن حجم المساعدة المالية الأمريكية لإسرائيل يتجاوز الأربعة مليارات دولار سنوياً، غير المساعدات والتجهيزات العسكرية الضخمة والمتطورة والفائقة الدقة، التي لم تفتك إلا الجسد العربي ومنه الفلسطيني الذي خاضته معه ما يزيد عن ثماني حروب.
- قبل اثنين وستين عاماً، وتحديداً منذ عام 1952م، دفعت ألمانيا ما يزيد على 70 بليون دولار أميركي لليهود وللجمعيات التي أنشأوها لإغاثة ما يسمى "الناجين من المحرقة"، إضافة إلى رضوخ ألمانيا للإبتزاز اليهودي ووافقت حكومتها على دفع تعويضات ل80 ألف يهودي إضافي من الذين هربوا من بلدان أوروبا الشرقية لدى قدوم الجيوش الألمانية إليها خلال الحرب، مع دفع مبلغ مقطوع قدره نحو 3150 دولار أميركي لكل يهودي معني، أو ورثته... وقد يبلغ إجمالي المبالغ المستحقة على ألمانيا بموجب هذا البند نحو 300 مليون دولار أميركي، كما وافقت الحكومة الألمانية على تسديد تعويض شهري مقداره 370 دولار أميركي شهرياً لـ60 ألف "ناجٍ من المحرقة" المزعومة ما يزال حياً، وذلك مدى الحياة.
والسؤال الذي يُطرح هنا: لماذا أنشأ وهيأ ودعم وساند وحمى الغرب عموماً والقوى الاستعمارية-الإمبريالية خصوصاً، الحركة الصهيونية وربيبتها "إسرائيل"؟ وفي المقابل كيف استطاعت الحركة الصهيونية ولا زالت الاستفادة من كل ذلك؟ ولماذا معنيون بأمن "إسرائيل" أكثر باستمرار كجزء من أمنهم للدرجة التي تُشعرك أن حدود الولايات المتحدة الأمريكية أقرب إلى الوطن العربي من فلسطين ذاتها؟! ولماذا "إسرائيل" ضربت بطائراتها واغتالت قديماً وحديثاً في مصر ولبنان والعراق وسوريا وتونس والسودان... وفي عرض البحر ودول الغرب وفي غير مكان على هذه المعمورة؟!.
لقد أثبتت تجربة ما يزيد عن قرن من الصراع مع العدو الصهيوني سواء في مرحلة الكفاح المستمرة صعوداً وهبوطاً أو التسوية المُستمرين في إنعاشها بين الحين والآخر، أن التحالف الصهيوني – الامبريالي لم يكن للحظة تحالفاً تكتيكياً أو ظرفياً بل تحالفاً استراتيجياً عميقاً، للطرفين مصلحة حيوية ومصيرية فيه، وهذا ما يؤكده المفكر الفلسطيني غازي الصوراني بقوله: "يجب الانطلاق من رؤية استراتيجية تقوم على أن الدولة الصهيونية هي جزء من المشروع الامبريالي، وليست كما يزعم البعض أنها "دولة اليهود" أو "أرضاً للميعاد" فهذه كذبة كبرى اُستخدمت غطاء لأهداف النظام الرأسمالي، الأمر الذي تثبته وتؤكد عليه حقائق الصراع مع دولة العدو الإسرائيلي المعنية بالإسهام في الهيمنة على الوطن العربي كونها دولة أُنشئت لتحقق وظيفة محددة في خدمة رأس المال الامبريالي، ما يعني بوضوح التأكيد على إنهاء المشروع الصهيوني، عبر هزيمة المشروع الامبريالي في الوطن العربي من ناحية والتأكيد على ضرورة التغيير لإنهاء النظم التابعة كلها من ناحية ثانية، انطلاقاً من أن المعركة مع المشروع الامبريالي/الصهيوني هي في صميم معركة القوى الديمقراطية الثورية الفلسطينية والعربية عموماً وقوى اليسار الماركسي خصوصاً، في مجابهة النظام الرأسمالي".
قد لا يستغرب المرء أو المُتابع والمُهتم بالقضية الفلسطينية وتطوراتها، أن تأتي دعوة الانغلاق على "الذات الفلسطينية لتكون بلا عرب"، ممن يوصفون "بالوطنيين القطريين"، الذين لا يرون أي دور جدي للعرب في مجابهة المشروع الصهيوني ووجوده، وأن المعركة تعني الفلسطينيين وحدهم، وما دور العرب الرسميين والشعبيين سوى مساعدة نضال الفلسطينيين الذي يأخذ بالنسبة لهم شكل أوحد ليس إلا في الغالب وهو "الدعم المالي"، وقد "استوطنت" هذه النظرة أكثر بين هؤلاء "القطريين" بعد الشروع في عملية التسوية السياسية بالرعاية الأمريكية، حيث كان دور النظام الرسمي العربي عراباً لها، ومتستراً خلف ظهر الفلسطينيين لشرعنة علاقاته بالأعداء الإسرائيليين، لكن المُستغرب والمستهجن في آن أن تكون دعوة الانغلاق تلك من بعض اليساريين، خاصة أن هؤلاء لفترة ليست بعيدة - وقد يكونوا حتى اللحظة – ممن يقرون بمبدأ أممية الصراع مع الإمبريالية، فكيف تستقيم الدعوة تلك للأممية في الوقت الذي تتخلى فيه عن القومية؟! وهل يمكن أن نكون أمميين جيدين دون أن نكون قوميين جيدين؟! كما هل يمكن أن نكون قوميين جيدين دون أن نكون وطنيين جيدين؟! وفي هذه الحالة هل ينفصل النضال ضد الامبريالية عن النضال ضد الصهيونية والعكس؟! أم أن دعوة هؤلاء اليساريين للانغلاق تنبع بالأساس من اعترافهم بالدولة الصهيونية؟!.
وحول ذلك يقول المفكر الفلسطيني حسين أبو النمل "لا ريب أن الانقضاض على المشروع القومي من موقع "اليسار"، كان اطلاقاً للنار على نفس الهدف في توقيت متزامن مع الانقضاض عليه من موقع الصهيونية والامبريالية والرجعية. وعليه فإن "الانكفاء" اليساري عن المشروع القومي العربي كان ردة فعل على فشله في حرب 1967 التي شُنت أصلاً لتحطيمه، واستطراداً، كان "الانكفاء" موضوعياً استكمالاً للتحطيم. ما حدث في 1967، لم يكن مراجعة في العمق أو السطح حتى، بل ردة فعل مذعورة، وفرار من المركب الغارق، بل المُغرق لحسناته، في حين أننا لم نر لضيق أفقنا واستعجالنا إلا سيئاته. الهروب/الفرار، حرم التجربة من قراءة تستخرج الدروس الواجبة، وهي أن المشروع القومي لم يكن خطأ بل ناقصاً".
ويبقي السؤال: ناقصاً ماذا؟ هل كان بحاجة لمزيد من: القومية، أم الاشتراكية، أم الحرية، أم الديمقراطية، أم الحداثة ...الخ؟ لأن الأسئلة غابت، كان ما حدث، موضوعياً، قفزاً في المجهول.
قد يحاجج من يحاجج، أن الأنظمة القومية أو العربية عموماً وظفت قضية فلسطين في خدمة استمرار وإدامة حكمها الشمولي والاستبدادي، وحولت فلسطين من قضية مركزية مع الوقت إلى قضية هامشية... وهذا صحيح من حيث المبدأ، ولكن لا يحمل كل الصحة، ففي ذلك يقول المفكر الماركسي سلامة كيلة "لقد حققت الحركة القومية العربية العديد من الانجازات، لكنها لم تنتصر. لقد وصلت أقسام منها إلى السلطة في أكثر من "بلد"، وحظيت أقسام أخرى بشعبية كبيرة والتفاف جماهيري واسع، واستطاعت أقسام ثالثة فرض تطوير لمصلحة الجماهير في بلدان أخرى. باختصار لقد غدت قوة يُحسب حسابها، وخطراً يهدد المصالح الامبريالية الصهيونية والنظم المُسيطرة، وليشهد الوطن العربي مرحلة نهوض كبيرة بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وتألقت منذ نهاية الخمسينيات، ثم بدأ هديرها بالأفول منذ حرب حزيران 1967، وكانت الناصرية مثالها الصارخ وقائده بلا منازع وصورته الأشد وضوحاً". ويكمل سلامة كيلة في إطار تشخيصه الطبقي للنظام الرسمي العربي بقوله: "قادت فئات من البرجوازية الصغيرة الصراع ضد الاستعمار والأنظمة الرجعية المحلية، ووصلت أقسام منها إلى السلطة، لكن التوسع الإمبريالي في المستوى الاقتصادي استوعب هذه الأقسام، وهناك أقسام أخرى لم تصل إلى السلطة، حيث كان التوسع الاقتصادي يقود إلى إفادة شرائح اجتماعية أوسع من البرجوازية والبرجوازية الصغيرة، وكانت السلطة مدخلاً هامأ لاستفادة هذه الأقسام. كما لعبت أموال النفط دوراً هاماً في تغيير البنية الاقتصادية الاجتماعية في الوطن العربي... لذلك تكيَّفت هذه الفئات مع السيطرة الإمبريالية ودعمتها. وضمن ذلك تكرّست التجزئة وازدادت التبعية وتعمّق التخلّف، وظهرت الانقسامات الطائفية والاثنية، وأصبحت هذه الفئات التي كانت من البرجوازية الصغيرة وكيلة جديدة للمصالح الامبريالية".
من وجهة نظري، أن دعوة بعض "الأحزاب اليسارية والمثقفين الماركسيين" للانغلاق فلسطينياً، في ذات الوقت الذي يؤكدون فيه "أمميتهم" متجاهلين قوميتهم، يطرح تساؤلاً جوهرياً عن مدى وعيهم وتملُّكهم للماركسية ومنهجها العلمي - الجدلي، خاصة في ظل تبعية أغلبهم إلى "المركز السوفيتي" سابقاً، والذي أقام علاقة خاطئة بين الوطني والقومي فرضها أو تبناها هؤلاء "اليساريين"، وعليه لم تؤسس لوعي علمي، على العكس شوهته، إضافة إلى الانسياق العفوي وراء ممارسات القوى الفلسطينية "القطرية" وبالتحديد حركة فتح التي كانت تكرس "انعزالية فلسطينية" هدفت من ورائها الوصول لحل مُتوافق مع التكوين الكياني المؤسس على ضوء اتفاقات سايكس بيكو. وهي التي كرست أن الصراع هو صراع فلسطيني – إسرائيلي، ارتباطاً بكل ذلك لم يعوا هؤلاء طبيعة الصراع وجوهره القائم بين الأمة العربية بأحزابها وقواها القومية والديمقراطية والتقدمية والجماهير الشعبية من جهة والمشروع الصهيوني –الامبريالي والقوى الرجعية من جهة أخرى، وبقيت قراءتهم للصراع ليست قاصرة فحسب بل وتُدفع من فاتورة القضية الفلسطينية التي كلما بقيت تلك الرؤية "فاعلة"، كلما تعمقت هزيمتنا أكثر.
يقول المثل: "الجنة بلا ناس ما بتنداس"، وأقول: أن فلسطين بلا عرب، كمن يقف في صحراء جرداء، يبحث عن ماء يروي ظمأه، ومكان يستظل به من لظى نار شمسها الحارقة، فإذا به لا يجني إلا السراب ومزيداً من إلقاء نفسه في نار التهلكة.