دولة المؤسسات والقانون

بقلم: حنا عيسى

‏ان مهفوم الدولة ليس قديما جدأ فمعظم المفاهيم التي تعبر عن القدرة والنظام تعود بالاصل الى المدينة اليونانية والامبراطورية الرومانية، انما المفهوم الحديث للدولة نشأ بالتدريج في اوروبا بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر ودخل منذئذ في المصطلح السياسي واكتسب معناه الفني (التقني) واصبحت الدولة تؤلف الطريقة الوحيدة لجمع المجتمعات في العالم المعاصر في اطار سياسي وفي نهاية هذه الفترة اتخذت الدولة مفهوم المجتمع السياسي أولأ في ايطاليا في عهد (الانبعاث) ومن ثم في انكلترا وفي فرنسا في منتصف القرن الساس عشر واصبحت تعبر هذه الكلمة الجديدة عن حقيقة جديدة واتخذ معناها الحاضر، أي معنى المجتمع السياسي الاعلى الذي تنضوي تحت سلطانه سائر السلطات السياسية والاجتماعية، وهذا ما يعرف في انظمة الحكم باسم (الديمقراطية) التي في ظلها تأكدت دولة المؤسسات والتي لم يعد من الممكن في ظل دولة المؤسسات ان يقول حاكم كائنا من كان ان يقول «انا الدولة» الا اذا كان ملتأث العقل أو كان ينتمي الى زمن غير هذا الزمان.

‏وفي الدولة الحديثة لا توجد مؤسسة واحدة ولا سلطة واحدة وانما توجد هناك سلطات كل منها تمارس بواسطة مؤسسة دستورية. هناك سلطة تشريعية والتي تمارسها مؤسسة اسمها البرلمان» سواء تكون البرلمان من مجلس واحد أو من مجلسين وفقا لنص الدستور. وهناك سلطة تنفيذية تمارسها كل المؤسسات التنفيذية. وهناك سلطة القضاء تمارسها المحاكم على اختلافا انواعها . وكل سلطة من السلطات لها اختصاص محدد في اطار الدستور، فاذا هي خرجت عن هذا الاختصاص المحدد كان خروجأ غير مشروع. وبذلك لا يستطيع احد التدخل في اختصاص أي منها لأن الدستور وزع الاختصاصات وحدد لكل مؤسسة اختصاصها وجعل المشروعية مقرونة بالاختصاص القانوني، وهذا هو جوهر فكرة دولة المؤسسات.

والمؤسسات دائمأ متجددة على حين ان الاشخاص ‏الذين يمارسون سلطة المؤسسة باسمها وفي حدود الدستور متغيرون وزائلون، ولكن المؤسسات باقية ولا تتأثر بتغير وزوال الاشخاص، اذ ان المؤسسات في الدولة الحديثة هي اجهزة الدولة للقيام بوظائفها واختصاصاتها في الاطار الذي يحدده الدستور والقانون ويعهد الى اشخاص معينين لممارسة تلك الوظائف والاختصاصات باسم المؤسسة وليس باسمهم الشخصي.

وان نجاح بناء مؤسسات الدولة اليمنية الحديثة مرهون بقيامه على قاعدة اللامركزية في كافة الشئون المحلية وعلى مبدأ المشاركة الشعبية الواسعة في الحكم ومبدآ النهج الديمقراطي، باعتبار ان الحكم اللامركزي هو الشكل الديمقراطي الراقي وهو الأساس الموضوعي والذاتي المتين لبناء الدولة اليمنية الحديثة. والاضمن للحفاظ على وحدة كيان الأمة وتجنيبها سيادة الفردية الدكتاتورية والتسلط ونهج الحكم المركزي السلالي والعشائري القبلي والطائفي. كما ان نجاحها مرتبط بتوفر شروط تثبيت سيادة الشريعة والقانون والنظم على كل هيئات ومؤسسات وافراد الدولة والمجتمع وعلى طول وعرض البلاد.

مفهوم دولة القانون

انطلاقاً من قاعدة ان سيادة القانون تشكل شرطاً أساسياً من شروط المجتمع الحديث. فكيف نفهم دولة القانون؟ وكيف نصف دولة معينة انها دولة قانون؟

تبلور مفهوم دولة القانون تدريجياً في أوروبا كتصور بديل عن الدولة الامبراطورية دولة الحكم المطلق والسلطات المطلقة الذي يحظى فيها الملك والامبراطور بحق منح الحياة وزرع الموت تجاه (رعاياه).

اتخذ المفهوم في البداية سمة مثال سياسي يهفو اليه وكشعار سياسي يتجه نحو تطبيقه. اتسم بمفهوم دولة الحق والقانون منذ البداية لكونه مفهوما مقارنا صراحة او ضمنا لأن الحديث عن دولة القانون يتضمن الإحالة على نقيضها الدولة الامبراطورية التقليدية مطلقة السلطات او الدولة العصرية المستبدة الشمولية، دولة القانون بهذا المعنى هي دولة مجردة, دولة المؤسسات بالقياس الى الدولة التقليدية التي هي دولة مشخصنة دولة الأمير او السلطان. فإذا كانت السلطة في الدولة التقليدية متمركزة كليا وبشكل مطلق في شخص واحد هو بمثابة الواهب للخيرات او الحارم منها مثلما هو السيد المطلق واهب الحياة والموت فإن دولة القانون اي الدولة العصرية والديمقراطية هي دولة يتم فيها توزيع السلطة واقتسامها لا على أفراد بل على مؤسسات: مؤسسات تشريعية، مؤسسات تنفيذية، مؤسسات قضائية .

توزع هذه المؤسسات السلطة بل تشكل - في الصيغة المثالية لهذا التصور - بالنسبة لبعضها سلطات مضادة وظيفة كل منها هو الحد من سلطة أخرى.

وما يوحد ويربط بين هذه السلطات الموزعة هو وحدة الفضاء القانوني الذي يرسم لكل سلطة مجالها واختصاصاتها وحدودها فالمعيار والمرجع والحكم في دولة القانون هو القانون سواء تعلق الأمربالقانون الأساسي الذي هو الدستور او بالقوانين الفرعية.

وتقوم الدولة الحديثة على احلال العلاقات القانونية محل العلاقات الوجدانية والقرابية (العائلية) والعرقية والمهنية والمالية والأخلاقية والدينية وغيرها فسلطة القانون هنا هي السلطة المرجعية الأعلى التي تستمد منها كل الهيئات والقطاعات والممارسات والتيارات مرجعيتها الرسمية .

سيادة القانون

تفترض وتستلزم دولة القانون بجانب سيادة القانون وتوازي وتقابل السلطات ومراقبتها لبعضها البعض وجود فضاء من الحرية السياسية يمكن كل فرد من أن يكون كائنا متمتعاً بالحرية مساويا لغيره (مساواة صورية) ممتلكا للحقوق الضامنة والمؤطرة لهذه المساواة وفاعلا سياسيا بالقوة او بالفعل اي بكلمة واحدة (مواطنا).

دولة المؤسسات و القانون

أن المؤسسات قديمة قدم المجتمع البشري، ولكن تحول الدولة نفسها إلى مؤسسة من المؤسسات، أي انفصال سلطتها عن شخص الحاكم، واكتساب هذه السلطة لطابع قانوني لا شخصي، هو إنجاز كبير لهذه العصور الحديثة. ولهذا تتبوأ مؤسسة الدولة في عصرنا الحاضر مكانة سامية.

إن أكثر ما يميز الدولة الحديثة عن الدولة القديمة هو أنها دولة قانون، بينما ليس للدولة القديمة من مرجع سوى شخص حاكمها.

من هذا المنطلق – تحديدا - تبدو الدول العربية دولا تعاني بقدر يكبر أو يصغر من الفوات التاريخي، فهي مازالت اقرب إلى دولة القوة منها إلى الدولة الشرعية، وأقرب إلى دولة القبيلة والحزب الواحد، منها إلى دولة المؤسسات. وهي اقرب إلى دولة الأشخاص، منها إلى دولة الدستور. وأخيرا وليس آخرا حتى على الصعيد الإداري والقضائي نجد أن الدول العربية اقرب إلى دولة الولاء الشخصي، منها إلى دولة الموضوعية القانونية. وبدلا من أن يكون الدستور في الدول العربية سابقا على شخص الحاكم، فإنه لا يزال في غالبية الأحوال يتبعه كظله، ويرتهن بإرادته، وغالبا ما يزول بزواله، أو وفاته.

والدولة التي لا تلتزم على أعلى مستوياتها بالمبدأ المؤسساتي لا يمكن أن تفرض تطبيقه حتى على المستويات الدنيا، وهذا هو السبب الرئيس للفساد الإداري، و القضائي في الدول العربية.

إن الدولة الحديثة تقوم على مبدأ تساوي المواطنين جميعا في الحقوق والواجبات أمام القانون، وفيما بينهم مجتمعين مع الحكام، على اعتبار أن المفروض بالحكام في دولة المؤسسات أنهم أناس عاديون، يخضعون للقانون خضوع سائر المواطنين له. أما في دولنا العربية فتفتقد العلاقات الطابع الموضوعي المؤسسي، وتقوم على عصبيات تتناقض مع مبدأ المساواة أمام القانون في الدول الحديثة، ويصبح المتحكم فيها - بدلا من المساواة - العلاقات الشخصية والعائلية والقبلية والسلالية والتحزبية.

إن إشكالية وجود الدولة في المجتمع العربي معقدة للغاية، ولها جوانب متعددة، فحتى الآن لا توجد دولة واحدة يتفق عليها الجميع، فالبعض يراها دولة الأمة الإسلامية، والبعض يراها دولة الأمة العربية، والآخر يراها دولة الكيانات القطرية...، وتعود هذه الإشكالية إلى اختلاف عميق بين تقاليد العالم العربي وتقاليد العالم الغربي، وهو اختلاف ينبع  من حقيقتين:

أولا" : إن الفكر السياسي الغربي يختلف عن الفكر السياسي العربي من حيث أن الأول لم يجاوز كونه عملية ضبط للسلطة في تعسفها إزاء المواطن، ونلاحظ أن كل الفكر السياسي الغربي تمحور حول قضية منع الدولة من الاعتداء على المواطن ، وكيفية جعل الدولة ممارسة لسلطاتها دون الجور على المواطن. فتاريخيا ومن أيام العصر الروماني نرى أن الرومان أدركوا أن التعدد يمنع الانفراد بالسلطة ، وبالتالي يمنع التعسف، ولهذا أعطوا صلاحيات واسعة - نوعا ما - لما يسمّى بمجلس النبلاء آنذاك، أيضا اليونانيون القدماء أدخلوا مفهوم القانون إلى مجتمعهم، وحققوا "المجتمع المدني" من خلال تطويره عمليا، وكانوا سباقين في تحقيق "المجتمع المدني" عن طريق إنشاء "القانون المدني"، بعدها جاء مونتسيكو ليقول بثلاث سلطات، سلطة تنفيذية، وسلطة تشريعية، وسلطة قضائية، انطلاقا من مبدأ أن السلطة توقف السلطة، وهناك قول له:"كل من له سلطة يميل إلى إساءة استعمال السلطة". فهو يعتبر أنّ إساءة استعمال السلطة سمة عامة في طبيعة الإنسان البشرية، ومن هذا المنظار لا يمكن أن نتصور دولة أو نظام حكم لا يتسلط فيه أحد على أحد آخر، لذا تنبع الحاجة إلى إيجاد نظام دولة يقف إلى أقصى حد من تسلط الحاكمين على المجتمع ، بحيث تكون وظيفة الدولة هي إنشاء ضوابط على سلطة الحاكم. أيضا لا ننسى الثورة الفرنسية والثورات الماركسية، ورغم كل ما ارتكب بعهدهم من استبداد باسم قيم التحرر، إنما كان هناك حس ديمقراطي يتمثل بأن الإنسان بكيانه الشخصي له قيمة بحد ذاته، ويجب أن يستقل عن تسلط الحاكم...كل هذا أسس لما نشاهده الآن من مبدأ "سيادة الدستور".

أما العالم العربي فلم يعرف هذا المبدأ لأسباب يطول شرحها، و أما السلطة في الفكر العربي فكانت، ولازالت، تعني "الهيبة "أو "السيادة ". ومن هنا نرى أن صاحب السلطة هو صاحب السيادة، فننادي الحاكم بسيادة الرئيس، كل هذا يعني أن الإنسان في المجتمع العربي لا وجود له كفرد، و لا حماية له كشخص بشكل مستقل عن الدولة " العربية "، لذا بسهل علينا تفسير عدم وجود معارضات منظمة بشكل جماعي في تاريخنا العربي لأن المعارضة - كتنظيم - لم تقبلها ، ولم تعرفها - أصلا"-النظم السياسية العربية.

ثانيا" : إن تاريخ الدولة في الوطن العربي يختلف عن تاريخ الدولة في العالم الغربي، فتاريخ الدولة في الأول هو تاريخ الطبقة الحاكمة ، أما تاريخ الدولة في الثاني فهو تاريخ المجتمع المحكوم .

إن الدولة في العالم الغربي هي شخص معنوي، و بهذا المفهوم المجرد نضع أيدينا على أسّ الفكر الغربي

أما تراث الدولة في وطننا العربي فهو تراث "السلاطين"، والقواعد التي تأسست عليها الدولة العربية كانت - في معظمها - هي "الأحكام السلطانية" التي تحكم بمقتضى الحاكم، وتؤسس حكمه، وتضمن رفاهيته دون اعتبار كبير لحقوق الرعية، أو مصالحها، ودون أن تسمح بوجود أي مؤسسات أخرى تصون هذه الحقوق وتدافع عنها ولذلك فالدولة عندنا تتبع لشخص الحاكم، لأن دولتنا ليست حقيقة مجردة.

ان نقطة البدء في بناء المجتمع تعتمد على قبول الآخر والأخذ برأيه ومراعاة خصوصيته في الاعتبار وذلك على أساس ثقافة التسامح والانفتاح وبث الثقة بين الأفراد والجماعات والمكونات لمعالجة المشكلات، وأن تسبقه اشاعة القناعة لدى أفراد المجتمع على انهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات شركاء في الوطن ولهذا فإن عميلة بناء المجتمع ينبغي أن تمر بمسارين:

الأول: اعادة بناء الدولة وضبط سلطتها وتطهيرها من الموروثات الاستبدادية.

الثاني: اجراء عملية تثقيفية شاملة تقوم على التنشئة السياسية والاجتماعية لتعبئة المجتمع وتأهيله بما ينسجم مع متطلبات الوضع الجديد وتأهيله عبر الأدوات والقنوات التربوية والتعليمية والإعلامية .