فجأةً، رأيته. احتواني فرح لرؤيته بقدر ما يتملكني القلق عليه في غيابه. تركت ما كنت منشغلاً فيه لأجدني وإياه في مكان عام يؤمن لنا ركنٌ ناءٍ فيه حرية التحدث والاستماع بهدوء وأريحية واستمتاع.
سألت صديقي: ما أخبارك؟! طمئني عليك
أجاب بثقة: تمام. الحمد لله، بألف خير.
سألت: أصحيح ما أسمع؟
أجاب: وماذا تسمع؟
أجبت: أسمع أنك فُصلت من عملك. صحيح؟
أجاب: صحيح.
سألت: ولماذا فُصلت؟
أجاب: الفساد
سألت: كيف؟
أجاب: من يقارع الفساد ويكشف عورات الفاسدين والمفسدين ينبغي له أن يكون جاهزاً، على الدوام، لدفع الثمن.
سألت: دفع الثمن! كيف؟! ولماذا؟! ولمن؟!
أجاب: إن أردت أن تقاوم الفساد، كن فاهماً وكن واثقاً تماماً- قبل أن تكشف عن مفاسد أصحابه- أن الفاسدين الذين عقدت النية على كشف عوراتهم لن يضعوا في اعتبارهم أنك منتمٍ لدينك ووطنك وشعبك، وإنما أنت تستهدفهم وتعمل ضدهم، الأمر الذي يوجب عليك أن تكون مستعداً لدفع ثمن مقارعتك لفسادهم، باعتبار أن دفعك الثمن هو ضريبة حبك وانتمائك وإخلاصك للدين والأخلاق والوطن.
سألت: وما الفساد الذي قارعته وتقارعه وفصلت بسببه؟!
أجاب: فساد له أشكال تتنوع وتتغير وتتبدل. من أين أبدأ وكيف أنتهي؟!
قلت: حدثني عن سبب فصلك، إذَنْ
قال: لأنني فصلت أكثر من مرة، فإنني سأحدثك عن المرّة الأخيرة التي أعيش الآن معها وتعيش معي. اسمعني جيداً.
قلت: كلي آذان وعقل وعيون ومشاعر وأحاسيس تسمع وتعي. تفضل.
قال: كانت قد صدرت بحقي عقوبة لا مجال للحديث الآن عنها، من حيث بدايتها ونهايتها أو من حيث سببها أو نتيجتها، ربما أحدثك عنها لاحقا. لدى تبليغي بالعقوبة، طُلب إليَّ التوقيع على تعهد مفاده الالتزام بعدم الإضرار بسمعة المؤسسة التي أعمل فيها. ولكن نظراً لما يلف التعهد من غموض، فقد طالبت المؤسسة- على نحو متكرّر- بفكّ الغموض الذي يلفّ هذا التعهد، وذلك بالإجابة عن أربع أسئلة إذا ما أجيب عنها أو عن بعضها فيما يختص بالإضرار بسمعة المؤسسة، فإنه يصبح ساعتها في مكنتي إما أن أوافق على الالتزام بالتعهد والتوقيع عليه، وإما أن أحاورها وأحاججها في شأنه، وإما أن أنتهي إلى رفضه. لكن الذي حدث أن إدارة المؤسسة تجاهلت طلباتي المتكرّرة ولم ترد علي أي منها في الوقت الذي بقيت فيه أنتظر الرد تارةً، فيما أقوم بتكرار مطالباتي تارةً أخرى. بعد وقت طويل من الانتظار، وصلني من المؤسسة كتاب يُذكرني بأنني لم أوقع على التعهد طيلة الفترة السابقة، فما كان مني إلا أن رددت عاجلاً بأنني لم أوقع لأنني ما زلت أنتظر ولو رداً واحداً على مكاتباتي المتكررة والتي أشرت إلى تواريخها. بعد ذلك، جاءني قرار فصل نهائي، وهذه هي الحكاية.
سألت: أأفهم من ذلك أنك فُصلت لأنك رفضت التوقيع على تعهد؟!
أجاب: دعني أصحح لك. أنا لم أرفض التوقيع على تعهد.
قلت مقاطعاً: سمعتك تقول قبل قليل أنك لم توقع على التعهد.
قال: صحيح. أنا لم أوقع على التعهد، ولكنني لم أرفض التوقيع عليه. ألم أقل لك إن ما في التعهد من غموض دفعني إلى مطالبة المؤسسة بالإجابة عن تساؤلاتي لفكّ الغموض أولاً، ثم أرى إن كنت سأوقّع أو أطلب التعديل أو أحاور أو أرفض ثانياً. المهم أنا لم أرفض أبداً.
سألت: لماذا، في رأيك، لم ترد المؤسسة على مكاتباتك؟ أليس ممكناً أن تكون مكاتباتك لم تصلها لأي سبب من الأسباب؟!
أجاب: ممكن، لكن هذه ليست مسؤوليتي. فضلاً عن ذلك، فإن المؤسسة ما كان لها أن تتسرع في فصلي على النحو الذي فعلته.
سألت: ماذا كان على المؤسسة أن تفعل، إذَنْ؟!
أجاب: كان عليها أن ترد على مكاتباتي وتستجيب لمطالباتي وتجيب عن أسئلتي وتنتظر لترى إن كنت سأوقع على التعهد أو... أو... أو .... ؟! وساعتها لكل موقف موقف، لا سيما وإن المفتاح لديها والقرار عندها، فهي جهة وسلطة أما أنا ففرد.
سألت: سألتك قبل قليل عن سبب عدم ردّ المؤسسة عليك، ولكنك لم تجب.
أجاب: ربما لأنها أعجز من أن ترد وتوضح وتجيب.
سألت: لماذا؟ أجاب: لأن المؤسسة لا يحترم أربابها أنظمتها وقوانينها، على الرغم من كثرة رجال القانون فيها، والذي ثبت- قبل أيام- سطو واحد منهم على أبحاث غيره، فيما (لطش!) آخر - قبل سنوات- دون ذرة من حياء كتاباً بأكمله من جلدته إلى جلدته، وإن كان أفضل شيء أبدعه في (لطشه لطش الحافر على الحافر) كان، على سبيل المثال، تحويل الفصل الرابع- بقصد التعمية والتمويه- إلى الأول أو الثاني إلى الخامس، وهكذا. ليت الأمر كذلك فقط، فرئيس هذه المؤسسة ذاته كان قد أدين- قبل سنوات- بجريمة التزوير، فيما ادعى مسؤول آخر من العيار الثقيل إلى نفسه ما كان أحد المسؤولين عنه قد ابتكره وابتدعه.
سألت: ألهذا الحد بلغ الفساد عندكم مبلغه؟
أجاب: بل وأكثر.
قلت: دعنا نغادر هذه النقطة - ولو مؤقتاً- لنعود إلى التعهد الذي كان رفضك التوقيع عليه سبباً لفصلك
قال: قلت لك إنني لم أرفض التوقيع، ولكنني لم أوقع وبقيت أنتظر رد المؤسسة على رسائلي التي طلبت فيها إجابات عن أسئلة لتوضيح ما لم أفهمه في التعهد تماماً.
سألت: وما الضرر إن وقعت على تعهد بعدم الإضرار بسمعة الجامعة؟ أنا لا أرى في توقيعك على تعهد كهذا أي ضرر عليك، فلماذا لم توقع وتختصر الطريق على نفسك وعلى المؤسسة؟
أجاب: إن توقيعي على مثل هذا التعهد بعدم الإضرار بسمعة الجامعة فيه الكثير من الخطأ والضرر معاً في آن: أولاً، هناك فرق بين أن توقع على تعهد هكذا على نحو عام، على الرغم من خطأ التوقيع، وبين أن توقع على تعهد مرفق بالعقوبة وفي سياقها، بل إنه يعدّ جزءاً لا يتجزأ منها. وثانياً، إنك إن وقعت على التعهد في سياق هذه العقوبة، فإن توقيعك هذا إقرار منك بأنك أضررت بسمعة مؤسسك سابقاً، وهو ما ليس صحيحاً. وثالثاً، لا يلزَمُك ولا يَلْزُمُك أحد- البتّة- أن توقع على تعهد بعدم الإضرار بسمعة المؤسسة، لأن الأصل ألا تسيء إلى المؤسسة وألا تحدث ضرراً لها أو لسمعتها لأنك تعمل لخدمتها بموجب أنظمتها وقوانينها، والدليل على ما أقول أن المؤسسة أصدرت عقوبة ضدي- بغض النظر عن سلامتها قانوناً أو انحرافها- بناءً على فهمها الخاطئ والمعيب لأنظمة المؤسسة وقوانينها. أما التوقيع على تعهد، فليس منصوصاً عليه في الجزاءات المعمول بها في المؤسسة، فضلاً عن أنّ الأصل ألا توقع على شيء غامض لا تفهمه ويلزمه التوضيح والاستفسار، وهو ما لم يتحقق بسبب استنطاع المؤسسة وعزوفها عن الرد ورفضها التوضيح.
سألت: ولكن ما هو مقصد المؤسسة، في ظنك، من عبارة "الالتزام بعدم الإضرار بسمعة المؤسسة"، بمعنى آخر: ما الشيء أو الأشياء- حسب اعتقادك- التي إن فعلتها، فإن المؤسسة تعتبرها إضراراً بسمعتها؟!
أجاب: مقصد المؤسسة كما أظن- وليس الظن في كل الأحوال مؤكداً- ألا أكتب عن خراب المؤسسة ومفاسدها في الصحافة أو أتحدث عنها في وسائل الإعلام، ولكنهم لا يريدون أن يقولوا ذلك صراحةً، فيستبدلون الصراحة باللف والدوران والمواربة والمراوغة فيقولون
"إننا نطالبك بالتعهد بعدم الإضرار بسمعة المؤسسة"، لكنك إن سألتهم كيف هو الإضرار بسمعة المؤسسة وكيف يحدث، كما سألتهم أنا في مكاتباتي، فإنهم لا يجيبونك وإن أجابوك فجوابهم يلزمه توثيق هم ليسوا قدره إذ يجبنون عنه.
سألت: لماذا؟
أجاب: لأنهم يعرفون ردي، ولأن ردي تؤيده القوانين الفلسطينية، والتشريعات والقوانين الدولية/ الإنسانية ويؤيده القانون الدولي، وقبل كل ذلك وبعده يؤيده القانون الإلهي، وتؤيده التوجيهات النبوية.
سألت: كيف؟! لا أفهم. أرجوك؟
أجبت: إن الأوامر الإلهية الصادرة إلينا في قوله تعالى في سورة البلد: "ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين"، نؤكد على العلاقة بين العين التي ترى ما تراه واللسان الذي ينبغي له أن يعبّر عن رد الفعل على ما تراه العين، ذلك أن الأمر الطبيعي طبقاً للإرادة الإلهية هو أن ما تراه العينان يُلزم اللسان والشفتين بالتعبير عنه كرد فعل عليه، دونما صمت أو سكوت أو سكون في شأنه، وكذلك في قولة تعالي في سورة البقرة: "ولقد علم آدم الأسماء كلها"، أي علم آدم الكلام، تأكيداً على أن أول شيء علّمه الله سبحانه لأب البشرية، آدم عليه السلام، لم يكن كيف يأكل ويشرب، أو كيف يبيع أو يشتري، أو كيف يلبس ملابسه أو يستر عورته، وإنما كيف يتكلم. إن ذلك يعني أن الله سبحانه علّم الإنسان- بدءاً بآدم، أول ما علّمه، البيان، أي الكلام، فعلّمه كيف يتكلم، مصداقأً لقوله تعالى في سورة الرحمن: "الرحمن، علم القرآن، خلق الإنسان، علمه البيان".
أما التوجيهات النبوية التي بلغت مبلغ الضرورة والواجب من خلال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي على سبيل المثال، قوله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".
وعن التشريعات والقوانين الدولية/ الإنسانية، فإن فيها من ضمانات حماية الرأي وحرية التعبير عنه ما يملأ مئات الصفحات وعشرات المجلدات، ما يجعلنا نكتفي بالإشارة إلى الآتي، مثالاً لا حصراً:
* الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 (م/19)
* العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية 1966 (م/19)
* الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان 1950
* الميثاق الأمريكي لحقوق الإنسان 1967
* المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان (ديسمبر 1976)
* إعلان ليما للحريات الأكاديمية واستقلال مؤسسات التعليم العالي 1988
* إعلان كمبالا بشأن الحرية الفكرية والمسؤولية الاجتماعية 1990
* إعلان عمان للحريات الأكاديمية واستقلال مؤسسات التعليم العالي 2004
* إعلان اليونسكو للحرية الأكاديمية 2005
أما القوانين المحلية الفلسطينية التي تكفل للإنسان حقه في أن يكون له رأي، وحقه في حرية التعبير عنه، فنشير هنا إلى بعضها، على سبيل المثال لا الاستقصاء:
* القانون الأساسي الفلسطيني (م/19)
* قانون المطبوعات والنشر الفلسطيني (المواد 2+4+7+25+26+27)
* وثيقة إعلان الاستقلال الوطني الفلسطيني 1988
* إعلان الرئيس الراحل ياسر عرفات في 30/9/1993 عن التزام منظمة التحرير الفلسطينية باحترام المواثيق والمعاهدات الدولية الضامنة لحقوق الإنسان، ومن بينها وأهمها حرية الرأي وحق التعبير عنه.
وبعد، فإن
في البدء كان الكلمة
ويوم صارت أصبحت متهمة
فحوصرت وطوردت
واعتقلتها الأنظمة
في البدء كان الخاتمة (أحمد مطر)
أما آخر الكلام، فلقد قال رب العالمين في الظلم المهلك وفي الظالمين الهالكين بأمره: "وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعداً" (الكهف 59). أما موعد الهلاك هذا، فإنه لا محالة قادم!
بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة