في ظل الصخب الانتخابي الرئاسي الذي جرى في مصر، ويجري في سوريا ولبنان، وعلى وقع الانتخابات البرلمانية في العراق، التي ينتظر منها أن تفرز رئيساً جديداً للسلطة التنفيذية في العراق، أو تجدد للمالكي دورةً جديدة، بالتزامن مع الصراع الدموي على السلطة في ليبيا، والانقسام الحاد في صفوفها السياسية والعسكرية، الذي قد يفضي إلى تقسيمها، وتهديد وحدتها، أو الانقلاب على ربيعها الذي لم يزهر بعد، بل بات يهدد مستقبل ليبيا وشعبها، وقد يدخلها في حمأة حربٍ أهلية دموية تستعر بنار النفط المتنازع عليه.
فإن الكيان الصهيوني يعيش أجواءً انتخابية هادئة، مخالفة لما يجري في المنطقة العربية، فلا صخب ولا ضوضاء، ولا برامج ولا تحديات، ولا شعارات ولا يافطات، ولا مراكز اقتراع ولا صناديق انتخاب، ولا صراع ولا قتال، ولا قتلى ولا جرحى، ولا اشتباكات ولا مناوشات، إذ لا جمهور في الشارع يتظاهر، ولا استعراضاتٍ عامة تبشر بالرئيس الجديد وتدعو له، وتعد العدة لاستقباله يقيناً، والاحتفال بفوزه المؤكد، وهي تدعي أنه المنقذ المخلص، والقائد الخالد، والمرشد الموجه، وأنه إن لم ينتخب فإن البلاد ستغرق، والبلاد ستظلم، والكهرباء ستنقطع، وأن الشعب سيفقر وسيعرى، والأمن سيفقد، والفوضى ستعم، والاقتصاد سيخرب.
لا شئ في انتخاباتهم يشبه انتخاباتنا، بل إن كل ما يجري فيها مختلف ومناقض، فهي انتخاباتٌ هادئة، بل هي صامتة، تدار في الكواليس، وتطرح في الخفاء، لا يشارك فيها الشعب، ولا يتدخل فيها الجمهور، ولا ينشغل فيها البرلمان، ولا تتعطل جلساته، ولا يطير نصابه، ولا يغيب أعضاؤه، ولا يفقد سياسيوه قرارهم، ولا ينتظرون إشاراتٍ من وراء الحدود، تحمل كلمة السر، ومفتاح الفرج، وتظهر نتيجة التوازنات، وتبين حقيقة موازين القوى، وثقل الأطراف اللاعبة والمتدخلة، من أصحاب الثقل والنفوذ، والقدرة على التدخل والتأثير.
ولا مساعي محمومة للتمديد ولا أخرى للتأجيل، ولا رغبة في التعديل أو التغيير، لما يتناسب مع البقاء والحفاظ على القديم، أو الإتيان بجديدٍ توافقي، أو ضعيفٍ بالتراضي، بعد تأكيد العجز عن الإجماع على رئيسٍ قوي، أو شخصيةٍ جامعة، ما يجعلها انتخاباتٍ حرةً ونزيهةً ومستقلة، سيدة في قرارها، وحرة في اختياراتها.
ربما أن الرئاسة الإسرائيلية شكلية، وهي بروتوكولولية لا أكثر، فلا دخل لها في السياسة، ولا دور لها في إدارة الشأن العام، وقد أظهر الرؤساء السابقون للكيان الإسرائيلي أنهم ديكور وشكل، واسمٌ ووظيفة، وراتبٌ ضخمٌ وامتيازاتٌ شخصية، لكن لا أدوار حقيقية، ولا مهام مركزية، ولا طموح للمشاركة في الحياة السياسية.
بل هي فرصة مناسبة للتقاعد، ومكافأة مجزلة لنهاية الخدمة، تمنح لبعض الشخصيات الإسرائيلية، التي كان لها دور ووظيفة، كي يقضي أياماً جميلة في نهاية حياته، ويسعد بالتقاط صورٍ تذكارية مع بعض الشخصيات الرسمية، ويتمتع بالقيام ببعض الزيارات الدولية، يحظى فيها باستقبالاتٍ عالية المستوى، يمشي خلالها على السجادة الحمراء، ويستعرض فرق الحرس الجمهوري أو الملكي، ويقف على المنصات الرئاسية ليستمع إلى الجوقات الموسيقية، وهي تعزف نشيد بلاده وأخرى.
صحيح أن رئيس الكيان الصهيوني السابق موشيه كاتساف مدانٌ ومعاقب، وأنه يقضي فترة حكمٍ في السجن نتيجة مخالفاتٍ مالية، وأخطاء مسلكية، إلا أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن الرئيس الإسرائيلي المنتهية ولايته شيمعون بيرس، ذي الواحد والتسعين عاماً، يختلف عن سابقيه، وأنه يتميز عن غيره من رؤساء الكيان الصهيوني.
إذ أن تاريخه السياسي في الدولة العبرية كبير، وسجله حافلٌ بالإنجازات، ليس أقلها تمكين الكيان الصهيوني من امتلاك وتصنيع القنبلة النووية، فضلاً عن المناصب الهامة التي تقلدها خلال مسيرته السياسية، بدءاً من الإدارة العامة لوزارة الدفاع الصهيونية، ووزارة المالية والخارجية، وصولاً إلى رئاسة الحكومة، وغيرها من المناصب التي جعلت منه الرجل العجوز المثقل بالمهام، وثعلب الكيان الماكر الذي يعرف كيف يخرج بلاده من المآزق.
فقد استطاع شيمعون بيرس أن ينشط كرسي الرئاسة، وأن يفعل دور الرئيس، فجعل منه شخصية مركزية، ولاعباً مهماً في الحياة السياسية الداخلية، وفي بناء أوسع شبكة علاقاتٍ خارجية، فكانت له زياراتٌ هامة، ولقاءاتٌ مركزية، مع العديد من الشخصيات الدولية، ومهد لعقد اتفاقياتٍ أمنية واقتصادية، وسهل زيارة مسؤولين لبلاده.
واستطاع أن يلعب أدواراً مركزية في رأب الصدع في الشارع السياسي الإسرائيلي، وتقليص الهوة بين المتنافسين، وتغليب المصلحة العامة على الحسابات الشخصية، ورفع الصوت عالياً محذراً من مغبة حصار الكيان الصهيوني، ومعاقبة شعبه، نتيجة سياسة الحكومة الرعناء، وتصرفات بعض الوزراء والمسؤولين الطائشة، التي حذر بأنها تشوه بلاده، وتزيد في عدد المناوئين لها، والمعارضين لسياساتها.
ستةُ إسرائيليين على قائمة الإنتظار لرئاسة كيانهم، وهم رئوفين ريفلين، وبنيامين بن اليعازر، وداليا دورنر، ومئير شطريت، وداليا ايتزيك، ودانيال شختمان، أحدهم سيتم اختياره يوم العاشر من هذا الشهر، بعد أن يتم اليوم عند منتصف الليل، إغلاق باب الترشح للانتخابات، كلهم يحلم بأن يكون الرئيس، وكلهم يدرك أن مهام الرئيس فخرية لا أكثر، لكنهم جميعاً يحملون مشروع إسرائيل القومي، ويتطلعون إلى دولةٍ إسرائيلية قومية، يهودية دينية، نقيةً بلا عربٍ ولا مسلمين، وبالقدس عاصمةً أبديةً موحدةً.
الرئاسة الإسرائيلية وإن كانت شكلية وبرتوكولية، إلا أنها تبقى هامة، ولها أثر على الفلسطينيين والعرب، فضلاً عن أن الرئيس الإسرائيلي الجديد قد يتعلم من سابقيه، فلا يرتكب أخطاءً مثل السجين، لئلا يلقى مصيره، فلا يرتشي ولا يرشو، ولا يغازل ولا يتحرش، بل يبذل جهده ليسير على خطى المنتهية ولايته، ويقتفي أثره ليكون هو المرجع الحكم، والمستشار الرشيد، والمرشد الدليل، الذي يعرف الطريق، ويتقن تسيير بلاده إلى بر الأمان، في مواجهة المتغيرات الحقيقية التي بدت تبرز في الساسية الدولية في مواجهة السياسة الإسرائيلية، إذ لا ينكر إسرائيليٌ أن المجتمع الدولي بدأ يضج بالممارسات الإسرائيلية، وأخذ ينأى بنفسه نسبياً عنها، فقد أضحت عبئاً ثقيلاً، وحليفاً مخجلاً بئيساً، ومحرجاً صفيقاً.