سبعة وأربعون عاماً وما زالت هزيمة حزيران تلاحقنا وتسجل نقاطها السوداء في أنحاء جسدنا العربي والفلسطيني ، وتزيدنا في كل عام إصرارنا على هزيمتنا ، وخداعنا أنفسنا بأننا ما زلنا عرباً وما زلنا فلسطينيين ، لقد سقتنا الهزيمة نشوة القيامة من بين أضلعها بعد حدوثها عام 1967 ، فعشنا قرارات قمة الخرطوم باللاءات الثلاث التي تلاشت مع مرور الزمن ، لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف ، كما عشنا نشوة تصاعد وتيرة المقاومة الفلسطينية وخاصة بعد معركة الكرامة في 21/ آذار/ 1968 ، وعشنا حالة نهوض قومي في التفاف عربي حول المقاومة الفلسطينية ، إلا أنّ الهروب الفلسطيني من الأحزاب العربية أوقعنا كفلسطينيين في مصيدة الفصائلية الفلسطينية التي تناحرت في داخلها وفيما بينها تناحراً سياسياً وعسكرياً ، ورغم إجماعنا العربي والفلسطيني على أنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب العربي الفلسطيني ، إلا أن ذلك لم يأخذ عمقه المطلق في الوعي الفلسطيني حتى هذه اللحظة ، وبدل أن تكون مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية التي بلغت من العمر قبل أسبوع خمسين عاماً هي مركز التخطيط الاستراتيجي للعمل الفلسطيني الذي يخدم المنطلقات والمبادىء والأسس والأهداف التي انطلقت من أجلها الثورة الفلسطينية وتحافظ عليها ، وجدنا انهياراً فلسطينياً لا يخدم الرواية الفلسطينية للوجود الفلسطيني على أرض فلسطين ، وذلك بعد إغلاق الجبهتين الأردنية والسورية أمام المقاومة الفلسطينية فكان القبول بالقرارين 242+338 بهدف الحصول على مقعد في مؤتمر جنيف بعد حرب تشرين 1973 ، ودخول المنظمة عضوا مراقباً في الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة والذي جعلها أسيرة الشرعية الدولية ، والذي أدى فيما بعد إلى اعتراف فلسطيني بدولة " إسرائيل " على أرض فلسطين ، وإصرار فلسطيني بعد ذلك على حل الدولتين ، هذا الحل الذي ينهي الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي على قاعدة النفي الفلسطيني للوجود الفلسطيني على مساحة 73% من أرض فلسطين الانتدابية ، حتى أصبحت القيادة الفلسطينية تقف موقف المدافع عن حق الوجود لإسرائيل في المنطقة العربية ، وتمثل ذلك في حكومة الاتفاق الوطني التي جاءت نتيجة مصالحة صورية بين حركتي " فتح " و "حماس " ، هذه الحكومة التي ألزمت نفسها في أول جلسة لها مع رئيس منظمة التحرير بحل الدولتين وبالاعتراف بدولة إسرائيل وبقدسية التنسيق الأمني مع إسرائيل ، غير عابئة بإنهاء الانقسام على الأرض وتجسيد المصالحة التي كان يجب أن تأخذ كل أبعادها في جلسة تحقيقها وليس بإحالة ملفاتها إلى الحكومة العتيدة والتي أحالت بدورها هذه الملفات إلى ما بعد الانتخابات المزمع إجراؤها مستقبلاً .
أمام هذا الانهيار الفلسطيني ، وإصرار الفلسطيني على عودته إلى دولة إسرائيل وأن يصبح مواطناً إسرائيلياً يتمتع بالجنسية الإسرائيلية إن قبلت إسرائيل بذلك ، علماً بأن القيادة الفلسطينية راحت تتعامل مع حق العودة بأنه حق غير مقدس ، ووضعت خيارات أمام اللاجىء الفلسطيني ، التوطين أو اختيار أية دولة من دول العالم أو العودة إلى أرض السلطة الفلسطينية أو العودة إلى إسرائيل ، كل ذلك ضمن معايير يضعها الجانب الإسرائيلي ويتحكم في أعداد الفلسطينيين في أي من خياراتهم .
كما أنّ الانهيار الفلسطيني أدى بالسياسة الفلسطينية إلى وضع جائزة ترضية لإسرائيل إن قبلت بحل الدولتين ، حيث ستجد أكثر من خمسين دولة عربية وإسلامية تتسارع في الاعتراف بحق الوجود لدولة إسرائيل على أرض فلسطين.
هذا التنازل الفلسطيني الذي جاء نتيجة ضربات إسرائيلية هادئة في الجسم الفلسطيني يضعنا أمام سؤال خطير ، أي الروايتين أصدق ، الرواية الفلسطينية التي تمنح اليهود حق إقامة وطن قومي على أرض فلسطين ، أم الرواية الإسرائيلية التي تنفي وترفض الوجود الفلسطيني على أرض فلسطين .
فأمام الإصرار الفلسطيني على حق وجود دولة إسرائيل ، والإصرار اليومي على تجديد الاعتراف الفلسطيني اليومي بها ، وعدم الشرعنة الفلسطينية لحق المقاومة بكل أشكالها ، والتهافت الفلسطيني على المفاوضات العبثية التي لم تنتج سوى المزيد من السيطرة الإسرائيلية على الأرض بالبناء اليومي لمزيد من الوحدات الاستيطانية في الأرض المحتلة عام 1967 وفي منطقة القدس خاصة ، إلى السكوت الفلسطيني المطلق عن كل الممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين قتلاً وتدميراً للمنازل واقتلاعاً لأشجار الزيتون ومصادرة للأراضي ، والإصرار على يهودية الدولة ، وعدم انتقال الفلسطينيين من مرحلة السلطة إلى مرحلة الدولة تحت الاحتلال ، وعدم الذهاب الفلسطيني إلى الهيئات والمنظمات الدولية إرضاء للإسرائيليين ، كل ذلك يجعلنا نقول نحن أمام خيارين أولاهما بأنّ الرواية الفلسطينية كاذبة بالمطلق ، و بأنّ الرواية اليهودية صادقة بالمطلق ، وثانيهما بأنّ الرواية الفلسطينية صادقة بالمطلق بينما الرواية اليهودية كاذبة بالمطلق ، ولا يمكن لأي من الروايتين أن تكون صادقة أو كاذبة نسبياً ، وهذا لا يمكن تحديده فلسطينياً إلا بإعادة رسم السياسة الفلسطينية ، وإعادة الاعتبار لمنطلقات وأسس ومبادىء وأهداف النضال الفلسطيني ، وكذلك إعادة الاعتبار للميثاق الوطني الفلسطيني ، وإلا علينا الإعلان والإقرار بهزيمتنا المطلقة أمام الإسرائيليين .