التعصب للهويات الفرعية : طائفة أو عرق أو قبيلة أو عائلة أو جهة جغرافية الخ آفة خطيرة تهدد وجود المجتمعات والدول وتُسبِب حروبا أهلية يدفع الجميع ثمنها . كل مَن يرفع راية هوية فرعية ويتعصب لها على حساب الانتماء للوطن إنما يخون الوطن ولو بطريقة غير مباشرة من خلال تهديد وحدة الشعب ، وغالبا ، فإن مَن يلجأ للتعصب للانتماءات الأصغر –الهويات الفرعية- إنما يكشف عجزه عن كسب ثقة واحترام الجميع على قاعدة الانتماء الوطني الأكبر للهوية الوطنية ،فالسياسي أو الطامح للسلطة عندما يعجز ويفشل عن استقطاب الكل على أسس وطنية يلجأ لاستقطاب الجزء على أسس طائفية أو عرقية أو قبلية وقد تأول الأمور إلى العائلية ، وفي هذه الحالة فإنه يسبِّق مصالحه ومصالح جماعته الشخصية على المصلحة الوطنية حتى وإن رفع شعارات المصلحة الوطنية والعامة.
إن كانت هذه الظاهرة خطيرة بالنسبة للدول والمجتمعات المستقلة فهي أكثر خطورة بالنسبة للشعوب الخاضعة للاحتلال كما هو الحال بالنسبة للشعب الفلسطيني حيث تكون الحاجة للوحدة الوطنية أكثر إلحاحا لمواجهة عدو متفوق طامع بالأرض ومُهدِد للهوية الوطنية بل للوجود الوطني. كانت الهوية الوطنية في أوجها عندما كان الشعب الفلسطيني يواجه الاحتلال بالثورة والانتفاضة حتى إن الفلسطينيين رفعوا شعار (هويتي بندقيتي) فالاحتلال ومعاناة الغربة وحدا وصهرا الجميع في الوطنية ، هذا التداخل والتماهي بين كل الفلسطينيين جاء نتيجة عملية صهر في بوتقة الهوية الوطنية التي أكدت عليها الثورة الفلسطينية المعاصرة . في ظل العملية الثورية والنضال الوطني المتجه صوب العدو لم يعرف الوطنيون الفلسطينيون هويات فرعية متناحرة أو انتماء إلا لفلسطين الأمر الذي جنبهم الوقوع في متاهات الصراعات العرقية والطائفية والجهوية التي تعاني منها اليوم كثير من الدول العربية والإسلامية، إلا أن توقُف المواجهة الساخنة مع العدو وحالة الانقسام أفرزت تداعيات سلبية على وحدة وتماسك المجتمع والهوية .
فكأنه لا يكفي هذا الشعب الاحتلال والشتات في كل مناطق المعمورة وتَدخُّل من يُعتبرون إخوة وأشقاء في شؤوننا الداخلية بما يؤدي لتعزيز الخلافات السياسية والأيديولوجية ، ولا يكفي الحزبية المقيتة والانقسام السياسي والجغرافي ... ، يعمل البعض بالخفاء على تقسيم الوطن – والوطن انتماء وهوية وليس مجرد بقعة أرض أو دولة – من خلال تعزيز الهويات الفرعية والتي غالبيتها مصطنعة .
اشتغل البعض على التباينات ما بين الداخل والخارج في محاولة لتهميش الخارج الفلسطيني وهم نصف الشعب وكلهم تقريبا لاجئين ، ثم تم الاشتغال على اصطناع هوية الضفة وهوية غزة وتعزيز حالة التباين بين الطرفين ، وإن كانت إسرائيل من أهم من اشتغل على هذه الحالة لإفشال المشروع الوطني القائل بدولة فلسطينية مستقلة في الضفة وغزة وكان الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة من طرف واحد عام 2005 أهم خطوة في هذا السياق ، إلا أن أطرافا عربية وفلسطينية عززت هذا التباين بين الضفة وغزة ، وقد سعت جميع الأطراف المتواطئة في خلق تباين بين هوية غزة وهوية الضفة لخلق القطيعة ما بين الضفة وغزة ومحاولة تحويل الانقسام من انقسام جغرافي وسياسي إلى انقسام اجتماعي وثقافي وهو الأكثر خطورة لأنه يؤدي لتفكيك الرابطة الوطنية التي توحد الجميع ، وللأسف بتنا نتلمس خلال السنوات الأخيرة حالة من عدم تقبل فلسطينيو الضفة الغربية لأبناء قطاع غزة المقيمين في الضفة أو الزائرين لها بالإضافة إلى ضعف حالة التفاعل الوطني مع معاناة فلسطينيي غزة ، أيضا قلة زيارات أهالي الضفة لقطاع غزة وليس صحيحا أن السبب يعود لامتناع إسرائيل عن منح تصاريح زيارة بل لعدم وجود رغبة بالزيارة .
محاولات تدمير ومحاربة الشعب الفلسطيني لم تتوقف عند الممارسات الإسرائيلية الاستيطانية وحالة الحصار وإعاقة الجهود الدبلوماسية للوصول إلى اعتراف دولي بدولة فلسطينية مستقلة ، كما لم تتوقف عند فصل غزة عن الضفة ومحاولة اصطناع هوية غزية وهوية ضفاوية ، بل تجاوزت كل ذلك عندما ربطت حركة حماس نفسها بمشروع الإسلام السياسي الذي يصطنع تعارضا بين الهوية الوطنية والإسلام ، أو بين المشروع الوطني والمشروع الإسلامي ،ومع سيطرة حماس على قطاع غزة تم تهميش وتهديد الهوية الوطنية عندما عملت حركة حماس على إلحاق القضية الفلسطينية بمشروع الإسلام السياسي للإخوان وتمت إدارة الظهر للمصالحة الوطنية وللعمل الوطني لصالح تثبيت قطاع غزة كقاعدة من قواعد المشروع الإسلامي المتعدي للوطنية .
وأخيرا بدأنا نسمع ونلمس نعرة كنا نعتقد أن الثورة والنضال المشترك قد قضت عليها ، نعرة التمييز بين (المواطنين) و (اللاجئين) ومحاولة البعض توظيف هذه النعرة للتحريض على خصومهم ومحاولة كسب مؤيدين لهم ،إلا أن الخطورة أن هذه النعرة يوظفها البعض في معركة الصراع على القيادة والرئاسة داخل فتح وداخل السلطة . حتى وإن لم يتحدث احد من القيادات علنا عن الموضوع فإن حالة الاستقطاب لجهة والتهميش لجهة أخرى وخصوصا داخل المؤسسات القيادية تعكس ذلك. إن لم يتم تدارك هذه الآفة ومعالجتها في بدايتها فقد تستفحل وتؤدي ليس فقط لتعزيز الانقسام داخل حركة فتح وتحويل حركة فتح (أم الجماهير) لحزب نخب عائلية وجهوية ، بل وتخلق فتنة وطنية وزيادة انقسام جديد للمجتمع الفلسطيني المنقسم أصلا .
ما أثار الموضوع هو وجود عناصر وأحيانا قيادات يتحدثون عن مظلومية تقع على اللاجئين وأن البعض يسعى لتهميش دورهم في المؤسسات والمراكز القيادية . في واقع الأمر كنت وما زلت أصر على عدم التحدث بهذه اللغة أو إثارة الموضوع حتى وإن كان يوجد ما يشير لوجوده ، لأنه خطير من جانب ولأن لا فرق بين مواطن ولاجئ فإسرائيل لا تستثني أحدا في عدوانها وقائمة الشهداء والأسرى تجمع الجميع ، كما أن إثارة هذه الموضوع يعتبر إثارة لفتنة نحن في غنى عنها ، حتى وإن حدث انحراف هنا أو هناك على المستوى الرسمي فقد يكون الأمر غير مقصود .
ولكن هناك ما يثير القلق والخوف من بعض الممارسات بعضها مقصود وبعضها غير مقصود ،إن لم يتم تداركها بسرعة فستعمل على خلق فتنة داخلية خطيرة ، خصوصا ونحن في وقت أحوج ما نكون فيه للوحدة الوطنية، وفي هذا السياق لا ندري كيف ترتبت وصارت الأمور وما الحكمة - إن كان هناك حكمة - في أنه لا يوجد لاجئ واحد من قطاع غزة بين أعضاء اللجنة المركزية لحركة فتح أو بين أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ؟ ! ، ومن يقف وراء تشكيل الهيئة القيادية العليا لفتح في قطاع غزة حيث تمثيل اللاجئين فيها متدني جدا ؟ !، ولماذا لا يود لاجئ من قطاع غزة بين وزراء حكومة التكنوقراط الأخيرة ؟ !. يجري هذا في الوقت الذي يمثل اللاجئون حوالي ثلاثة أرباع ساكنة قطاع غزة ، وما يثير هذه التساؤلات أن كل هؤلاء جاءوا بالتعيين وليس عن طريق الانتخابات ؟ ! .
كيف تقنع ثلاثة أرباع سكان القطاع من اللاجئين أن هذه المؤسسات تمثلهم وتعبر عن معاناتهم وهم غير ممثلين فيها ؟ ونعتقد أنه يوجد من بين اللاجئين في القطاع من يستحق عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وعضوية اللجنة المركزية لحركة فتح ورئاسة جامعة أو أن يكون وزيرا، وخصوصا أنه سيكون لقطاع غزة دور وطني استراتيجي في حمل راية الوطنية والمشروع الوطني والدفاع عن حق العودة في حالة فشل جهود التسوية السياسية . ويبدو أن وجود القيادة المركزية لحركة فتح في الضفة الغربية ،حيث للضفة خصوصية نضالية مختلفة ، يجعل القيادة غير ملمة بخصوصية التركيبة السسيولوجية والنفسية في قطاع غزة وفي مخيمات الخارج ، كما يبدو أن حركة فتح تعتمد في رؤيتها وتقييمها للأوضاع في المخيمات على أشخاص معنيين بإخفاء الحقيقة عن الرئيس حتى لا تتضرر مصالحهم ومواقعهم ، ولا نستبعد أن بعض هؤلاء يشيرون على الرئيس انه حتى يكسب (معركته) مع محمد دحلان (اللاجئ) فعليه إبعاد اللاجئين عن المواقع القيادية ! .
كان مُفترض أن يأخذ الرئيس أو مستشاروه بعين الاعتبار عند تعاملهم مع قضايا كبيرة تحتاج للحشد والاستقطاب الجماهيري التركيبة السسيولوجية للمجتمع ونفسيات الأفراد والنزعات والعصبويات حتى وإن كانت كامنة ومن الحكمة عدم إثارتها،لأن هناك من ذوي التطلعات السياسية والفاشلين سياسيا وذوي المصالح الخاصة الذين أوصلتهم الصدفة لمواقع المسؤولية على استعداد للعب على مشاعر وأحاسيس الناس العصبوية والمناطقية واستغلال الحس الوطني الراقي عند الشعب الذي يرفض الحديث عن هذه التقسيمات والانتماءات، لمراكمة مصالح خاصة. الحالة التي عليها جمهور فتح في المخيمات داخل الوطن وخارجه وخصوصا في قطاع غزة من فقر ومشكلة رواتب وإحباط ويأس وغياب التواصل المباشر بين القيادة والقاعدة وغياب التثقيف السياسي الفتحاوي الوطني وانعدام الثقة بين القاعدة الفتحاوية والقيادة المركزية الخ ، كل ذلك يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار في العمل الجماهيري، وخصوصا في ظل غياب الفكر الناظم والبرنامج السياسي الواضح والعمل المؤسسي ، وفي ظل غياب المواجهة مع إسرائيل التي تصهر الجميع في بوتقة واحدة ، في هذه الحالة يكون للأشخاص وأصولهم وانتماءاتهم دور في عملية الاستقطاب والحشد ولكن على قاعدة الالتزام بالمصلحة الوطنية العليا وليس انطلاقا من تمثيلهم لهويات فرعية مصطنعة قد تقتصر على العائلة والعشيرة.
ظاهرة انتقال اللاجئين من مواقع الريادية والقيادة إلى حالة من التهميش السياسي تعني أن اللاجئين المتضررين الأساسيين من النكبة والمعنيين مباشرة بالمطالبة بحق العودة لوطنهم والذين فجروا الثورة ورفدها بخيرة أبنائهم في الداخل والخارج لم يعودوا أصحاب قرار . نكرر مرة أخرى إننا لا نقلل من حق كل أبناء الشعب الفلسطيني بدون استثناء في تولي المواقع القيادية ولا نشكك بتمسك كل الفلسطينيين مواطنين ولاجئين بحق العودة كثابت من الثوابت الوطنية، ولكن تراجع حضور ألاجئين في مواقع صنع القرار ظاهرة تحتاج لوقفة تأمل وتفكير سواء كان تراجع دور اللاجئين يعود للاجئين أنفسهم أو نتيجة سياسة مقصودة من أطراف أخرى .
إن كانت هناك إرادة حقيقية للمصالحة الوطنية الشاملة المؤسَسة على وحدة ووحدانية الهوية الوطنية، وإن كانت هناك إرادة حقيقية لاستنهاض حركة فتح ومنظمة التحرير على قاعدة الثورة والتحرير وعودة اللاجئين فيجب محاصرة كل الهويات الفرعية ومن يشتغل عليها ، كما يجب أن يأخذ اللاجئون دورهم وموقعهم في المؤسسات القيادية وخصوصا أننا أمام مرحلة جديدة يتم فيها إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية والمؤتمر السابع لحركة فتح ومعركة دبلوماسية حول الدولة وحق عودة اللاجئين، يأخذوا دورهم ليس كهوية فرعية بل لأنهم أساس القضية الفلسطينية وهم المعنيون بحق العودة، وكل محاولة لتهميشهم في مواقع القيادة أو إفقارهم وتجويعهم والتضييق عليه ستُضعِف من حصانتهم وقدرتهم على مواجهة مخططات وإغراءات التوطين والتعويضات .