عمليّةُ الخليل: صاعقةٌ في سماءٍ صافيةٍ

بقلم: هاني المصري

في الوقت الذي اعتقدت فيه حكومة نتنياهو أنّها وصلت إلى أفضل وضع أمنيّ منذ احتلالها برغم استمرارها في تطبيق المشروع، الاستعماريّ الاستيطانيّ الاحتلاليّ العنصريّ العدوانيّ، وبمعدلات غير مسبوقة؛ جاءت العمليّة النوعيّة باختطاف ثلاثة مستوطنين من وسط منطقة "غوش عتصيون" في الخليل المحميّة أمنيًا من قوات الاحتلال كصاعقةٍ وقعت على رأسها في سماء صافية، لتعيدها إلى الواقع من خلال تذكيرها أنّ الاحتلال يولّد المقاومة ضده، وتلاحق مرتكبي الاحتلال مهما طال الزمن.

ليس مهمًا من ولماذا نفذت العمليّة؟ لأنها رد فعل طبيعي، وكما قال جدعون ليفي، الكاتب الإسرائيلي، في مقال له حمل عنوان "الاختطاف استدعته إسرائيل": "الذين يرفضون في عناد الإفراج عن سجناء فلسطينيين وما زال عدد منهم سجناء منذ عشرات السنين حتى منذ الفترة التي سبقت اتفاقات أوسلو، وعدد منهم التزمت إسرائيل بالإفراج عنهم؛ والذين يسجنون منذ سنين معتقلين دون محاكمة؛ والذين يتجاهلون إضرابًا عن الطعام لـ 125 معتقلًا "إداريًا"، يحتضر بعضهم في المستشفيات؛ والذين ينوون إطعامهم بالقوة، والذين يريدون أن يسنوا قوانين جائرة تعارض الإفراج عنهم – ينبغي ألا يُظهروا أنهم فوجئوا أو زُعزعوا بسبب عمل الاختطاف فهم الذين استدعوه".

ويضيف ليفي "مع إماتة المسيرة السياسيّة وإنزال الستار على آخر أمل فلسطيني بالإفراج عن السجناء بمسيرة سياسيّة؛ يكون الطريق الوحيد المفتوح أمام الفلسطينيين ليذكّروا الإسرائيليين بوجودهم ومشكلتهم هو طريق الكفاح العنيف، لأن كل طريق آخر أغلق في وجوههم. فغزة إذا لم تطلق صواريخ القسام غير موجودة. وتغيب الضفة عن وعي الإسرائيليين إذا لم يختطف طلاب معهد ديني".

إضافة إلى ما ذكره ليفي، أورد أن الذي يكثف الاستيطان، بحيث وصل عدد المستوطنين إلى أكثر من 700 ألف مستوطن ويخطط لكي يصل العدد إلى مليون خلال سنوات قليلة، والذي يواصل تهويد وأسرلة القدس، وقسّم الحرم الإبراهيمي مكانيًا وزمانيًا، ويحمي الاعتداءات اليوميّة ضد المقدسات، وخصوصًا الأقصى، وسط دعوات معلنة لتقسيمه زمانيًا ومكانيًا تمهيدًا لهدمه وبناء "هيكل سليمان" الثالث المزعوم على أنقاضه، والذي يطلق قطعان المستوطنين ليعيثوا في الأرض الفلسطينيّة فسادًا في سلسلة اعتداءات يوميّة منهجيّة تستهدف إبقاء عيش الفلسطينيين في جحيم لدفعهم للهجرة القسريّة داخل وطنهم وخارجه، والذي يواصل تقطيع أوصال الأرض الفلسطينيّة واستكمال بناء جدار الضم والتوسع العنصري، ويفرض الحصار على قطاع غزة والعدوان المستمر ضدها؛ ليس من حقه أن يستغرب وأن يستنكر عمليّة الاختطاف، وما سبقها من عمليات مماثلة تم إحباطها وفق زعم موشيه يعلون، وزير الحرب الإسرائيلي، الذي قال "إنه تم إحباط ثلاثين عمليّة اختطاف خلال العام 2013 و14 عمليّة منذ بداية هذا العام.

ردة الفعل الإسرائيليّة أكبر بكثير من الرد على عمليّة الاختطاف، ما يدل على أن الحكومة مرتبكة وغاضبة، وتريد أن تتهرب من المسؤوليّة عن الفشل والقصور الفادح، وتصدر أزمتها إلى السلطة الفلسطينيّة لأنها تصالحت مع "حماس"، من خلال الادعاء بأنها لم تقم بالتزاماتها التي تفرض عليها التعاون التام مع إسرائيل في محاربة الإرهاب ومنفذيه ومنع وقوعه، متجاهلة أن العمليّة وقعت في منطقة (ج) الخاضعة كليًا للسيطرة الإسرائيليّة.

فإسرائيل منذ سنوات طويلة أنهت التصنيفات (أ، ب، ج)، وتقوم بشكل يومي باقتحام المدن واعتقال من تشاء ومتى تشاء، وبعد أن تجاوزت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة التزاماتها باتفاق أوسلو وإزاء ما يسمى "عمليّة السلام"، وتريد التزامًا كاملًا بالالتزامات الفلسطينيّة؛ فهذا الأمر من المفترض أن يكون ليس معقولًا ولا مقبولًا، ومن غير الممكن استمراره حتى لو أعلن الرئيس أبو مازن أن التنسيق الأمني "مقدّس".

إن التجربة الماضية تدل على أن الحملات العسكريّة التي نظمت على إثر عمليات الاختطاف السابقة، بما فيها "من بيت إلى بيت" لم تؤد إلى تحرير المخطوفين، إلا أن الحكومة الإسرائيليّة أعلنت حربًا شعواء ضد الخليل، ونظمت حملة بمشاركة آلاف الجنود بعد استدعاء جزء من قوات الاحتياط وزج الوحدات المختارة، وتم اعتقال أكثر من 150 فلسطينيًا، معظمهم من كوادر ونواب "حماس"، وإغلاق الضفة، وترويع السكان، وتنفيذ عمليات اغتيال وقصف ضد غزة، والتهديد بشن عدوان واسع على القطاع، وتدفيع "حماس" ثمنًا باهظًا وشن "عمليّة السور الواقي 2"؛ ما يعنيه ذلك من إفلاس وتغطية على الفشل في تحديد هويّة ومكان الخاطفين رغم الادعاءات بقرب إنهاء هذه القضيّة، وتنفيذ عقاب جماعي وإعادة احتلال الضفة المحتلة أصلًا، التي تتعرض لمداهمات واعتقالات يوميّة. كل ذلك استعراض قوة ومحاولة لطمأنة الإسرائيليين الذين قدرتهم على الاحتمال محدودة، ولممارسة أقصى ضغط نفسي على الفلسطينيين حتى يضيقوا ذرعًا بالخاطفين ويضغطون عليهم وعلى من يقف وراءهم قبل تصاعد المواجهات إلى نقطة اللاعودة.

وفي ذات السياق، صرح مسؤول إسرائيلي بأن حصار الخليل مستمر والحملة ستطال الجميع، وطالب وزير شؤون الاستخبارات الإسرائيلي الأسرة الدوليّة بتحميل السلطة مسؤوليّة الاختطاف، لأنها شكلت حكومة وفاق مع "حماس"، أما رئيس المعارضة، زعيم حزب العمل، توقع أن يؤدي تنشيط التنسيق الأمني بعد العمليّة إلى زعزعة، وربما انهيار، المصالحة الفلسطينيّة، بينما دعا وزير الإسكان إلى تطبيق حكم الإعدام ضد المخربين المعتقلين في السجون الإسرائيليّة، وطالب عضو كنيست بقتل بعض الأسرى. كما أن هناك تهديد بهدم منازل قيادات "حماس" وإبعادهم إلى غزة. ونظمت حملة على الفيس بوك تطالب بقتل فلسطيني كل ساعة حتى عودة المخطوفين، وانضم لها خلال ساعات أكثر من 10 آلاف شخص، وطالبت منظمة "بيتار" العالميّة - وهي حركة شباب صهيونيّة - في رسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيليّة بقتل إسماعيل هنيّة ومروان البرغوثي.

هل ستؤدي العمليّة إلى تغيير إستراتيجي في القواعد التي تحكم العلاقات الفلسطينيّة - الإسرائيليّة منذ تولي أبو مازن سدة الحكم وحتى الآن؟

من السابق لأوانه الإجابة الحاسمة عن هذا السؤال، لأننا بحاجة قبل ذلك لمعرفة كيف ستنتهي عمليّة الخطف، وماذا يمكن أن يحدث قبل انتهائها؟. يمكن أن يكون الخاطفون قد تمكنوا من تهريب المخطوفين إلى غزة أو سيناء أو الأردن، وفي هذه الحالة ستبدأ مفاوضات ساخنة وناعمة للتوصل إلى صفقة تبادل أسرى، ويمكن أن يكون الخاطفون قد قتلوهم واختفوا داخل فلسطين أو خارجها، ويمكن أن تكون خليّة لـ "حماس" أو الجهاد أو كتائب الأقصى، أو بتعاون بين أكثر من تنظيم، ويمكن أن تكون العمليّة فرديّة أو مناطقيّة أو ناتجة عن قرار مركزي، والردود عليها في هذه الحالة ستكون مختلفة، وستكون هناك عمليات أخرى. ويمكن أن تكون خليّة تابعة لـ "داعش" أو غيرها من تنظيمات السلفيّة الجهاديّة، انتقامًا لاغتيال ثلاثة من أعضائها، وخصوصًا أن العمليّة تزامنت مع التقدم المفاجئ لـ "داعش" في العراق.

يمكن أن تؤدي العمليّة إلى تصعيد إسرائيلي لا تحتمله السلطة، ما قد يدفعها إلى وقف التنسيق الأمني وإطلاق يد أفراد الأجهزة الأمنيّة للدفاع عن شعبهم، أو لتمرد هؤلاء كما حصل مع أحد الأفراد الذي أطلق النار على قوات الاحتلال. وقد تؤدي إلى تقوية الوحدة الفلسطينيّة أو إلى إضعاف وانهيار المصالحة الوطنيّة، خصوصًا أنها لا تزال في البداية وهشّة وتتعرض لمعارضة إسرائيليّة واسعة، وقد تتمكن قوات الاحتلال من الوصول إلى مكان المخطوفين وإطلاق سراحهم، أو إلى قتلهم مع الخاطفين وعدد من أفراد القوات المهاجِمة.

إن الوضع صعب وتؤثر عليه أطراف وتطورات كثيرة، ومفتوح على كل الاحتمالات، والفلسطينيون رغم حكومة الوفاق الوطني ليسوا مستعدين لمواجهة هذا الموقف الجديد، ما يطرح الحاجة مجددًا إلى بلورة رؤية وإستراتيجيات جديدة وبرنامج موحد وقيادة واحدة ومؤسسة جامعة بأسرع وقت وقبل فوات الأوان، أو الندم حين لا ينفع الندم.