مع أنه حتى اللحظة وبعد مرور أسبوع لم تعلن أية جهة تبنيها لعملية خطف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين في الخليل المحتلة ،إلا أن ردود فعل الفصائل وقطاع مهم من الشعب الفلسطيني جاءت مرحبة بالعملية باعتبار أنها ردة فعل مشروعة على سلوكيات الاحتلال الاستيطانية وممارساته ، و اعتقد أنه من الصعب على أي مواطن فلسطيني التباكي على اختفاء ثلاثة مستوطنين فيما خمسة آلاف فلسطيني في سجون الاحتلال وعشرات المعتقلين الإداريين يتهددهم خطر الموت جوعا بسبب إضرابهم عن الطعام استنكارا للاعتقال الإداري غير القانوني ، وفيما الاستيطان يتواصل وكذا تدنيس المقدسات الخ . الدم الفلسطيني ليس أرخص من دم اليهود ، فنحن أنبل واشرف شعب على الأرض.
لا شك أن الحق بالمقاومة و الجهاد ثابت وطني ما دام الاحتلال قائما علي أرضنا، إنه حق يستمد شرعيته من القانون الطبيعي والشريعة الدينية والشرعية الدولية، وبالتالي ليس من حق احد أن يلغي هذا الحق ما دام الاحتلال جاثما علي أرضنا في الضفة وغزة التي يعترف العالم بأنها أراضي محتلة . الحق بالمقاومة يستمر ما دام الاحتلال موجودا، وحتى من منطلق الإستراتيجية السياسية سيكون من غير المنطقي أن يُعلن أي مسئول فلسطيني التخلي عن الحق بالمقاومة لان هذا الحق ثابت من الثوابت الوطنية والثوابت لا يجوز التصرف بها إلا بقرار من الشعب وبإرادته الحرة، حتى الدساتير لا يجوز أن تتضمن نصوصا تقول بإلغاء الحق بالمقاومة.
مع افتراض أن هذا الحق غير قابل لصيرورته راهنا ، ممارسة منتجة لمنجز سياسي فلا يجوز التخلي عنه ، لأن هذا التخلي يُفقد القيادة السياسية الراهنة والأجيال القادمة ورقة قوة قد تحتاجها إن فشلت نهائيا العملية التفاوضية، أيضا لا يجوز لأي مسئول أن يسقط الحق بالمقاومة وفي نفس الوقت يطالب المجتمع الدولي بتطبيق قرارات الشرعية الدولية لان الحق بالمقاومة جزء من الشرعية الدولية.
لكن المقاومة كما أنها حق فهي عقل أيضا ،بمعنى ضرورة ممارسة هذا الحق بعقلانية وبتخطيط حتى نتجنب ردة فعل من العدو تُوقِع خسائر أكثر مما يُنجز الفعل المقاوم ،فكم من حقوق أضاعها أصحابها لسوء تصرفهم وليس لقوة الخصم ،المقاومة حق ولكن : أين يُمارَس ؟ ومَن يُمارِسه ؟ وكيف يُمارَس هذا الحق ؟ . نتفهم حالة الغضب والحقد على الاحتلال كما نتفهم حالة التعاطف والتأييد الشعبي لكل عملية نضالية تستهدف العدو ،سواء كانت خطف جنود أو إطلاق صواريخ أو مهاجمة جندي بسكين أو قذف مستوطن بحجر،فالاحتلال يستدعي المقاومة تلقائيا ، وعندما نحذر من ردود فعل العدو على عملية الخليل أو أية عملية جهادية إنما لنكون على علم مسبق بما يفكر العدو ونضع في الحسبان إستراتيجية وطنية لمواجهته وليس الاكتفاء بالحديث عن البطولات والانتصارات ،فحسابات النصر والهزيمة تشمل الفعل وردة الفعل والمقارنة بينهما .
إذن مع تفهمنا لكل عمل ضد الجيش والمستوطنين داخل الأراضي المحتلة إلا أنه يجب التأكيد على ضرورة أن يكون أي فعل مقاومة في إطار إستراتيجية وطنية للمقاومة ووجود تنسيق بين القوى السياسية ، خصوصا أن رد إسرائيل لن يقتصر على الجماعة التي قامت بالعمل الفدائي بل سيَدفِع الشعب والمشروع الوطني كله الثمن . إسرائيل أعلنت بعد العملية الحرب على الكل الفلسطيني وممارساتها على الأرض تُشير لذلك حتى قبل أن تعلن الجهة المنفذة عن نفسها ، وحتى إن وجدت إسرائيل المخطوفين أمواتا أو أحياء ، أو اكتشفت أن لا علاقة للفلسطينيين بعملية الخطف أو الاختفاء ، فلن تتراجع عن العملية التي بدأتها والتي جاءتها كمنقذ من السماء للخروج من حالة الحصار الدولي وتهديد احتمال نجاح المصالحة الفلسطينية.
لا نبكي على حكومة ولِدت متعثرة بقدر ما نتخوف على وحدة الشعب ومن ردة فعل صهيونية ستكرس الانقسام والقطيعة بين حماس وفتح وبين الضفة وغزة و ستعاقب الجميع ،والانقسام الداخلي سيساعدها على ذلك خصوصا بعد تصريحات الرئيس أبو مازن حول إدانة العملية وتأكيده على استمرار التنسيق الأمني مع الإسرائيليين ،وموقف دول عربية متفهمة للموقف الإسرائيلي وما سيترتب على ذلك من استمرار بل وزيادة معاناة أهلنا في القطاع وخصوصا على معبر رفح .
من جهة أخرى ، إذا كان الخاطفون يزمعون عقد صفقة تبادل أسرى كما جرى مع صفقة شاليط وهو هدف يجد قبولا لدى أوساط شعبية ولدى ذوى الأسرى ، إلا أنه يجب لفت الانتباه أن إسرائيل أعادت خلال الأيام الماضية اعتقال عدد كبير من محرري صفقة شاليط المتواجدين في الضفة وكأنها تريد أن تقول للخاطفين إن فكرتم بإطلاق سراح أسرى فسنعيد اعتقالهم لاحقا كما فعلنا مع أسرى صفقة شاليط . مع افتراض أن إسرائيل ستقبل بعقد صفقة مع خاطفي المستوطنين ، إلا أن عملية التبادل ستكون بعد مرور سنوات وبعد إجراءات خطيرة في الضفة وغزة تجعل مُنجز إطلاق سراح أسرى إن تم لا قيمة له ،وستكون صفقة سياسية لن تقتصر على تبادل أسرى بل إعادة موضعة حماس في المشهد السياسي الفلسطيني .
ما نتوقعه أن إسرائيل ستوظِف عملية خطف المستوطنين – بغض النظر عن هوية الخاطفين- لتحقيق أهداف سياسية إستراتيجية معدة سلفا، منها إفشال حكومة التوافق وإضعاف السلطة الوطنية بل العمل على تقويضها وتكريس الانقسام ، ولا نستبعد أن تقوم إسرائيل بعملية واسعة في الضفة وقطاع غزة تقوم بمقتضاها بنقل مئات من قادة حماس وربما بعض رجال السلطة الوطنية إلى قطاع غزة ، مع عدم استبعاد سيناريو أكثر خطورة قد تلجا إليه إسرائيل إذا شعرت أن الدور الوظيفي لحركة حماس في الحفاظ على حالة الانقسام قد انتهى، في هذه الحالة قد توجه ضربة قوية لحماس في قطاع غزة وتهيئ الظروف لتسليم مقاليد الأمور في القطاع لعناصر ينتمون للسلطة الفلسطينية مقابل إنهاء وجود السلطة في الضفة !.
قد يرى البعض فيما نقول موقفا متخاذلا واستهانة بالمقاومة وترهيب للشعب من تداعيات العملية الخ ، ولكن ألا يمكننا ممارسة حقنا بالمقاومة بطريقة أكثر عقلانية ؟ ألا يمكننا تحرير ممارسة حق المقاومة من الأفعال الارتجالية والانفعالية ومن الحسابات الحزبية الضيقة ؟. نعم المقاومة حق والانتفاضة حق ، ولكن في إطار إستراتيجية وطنية ومصالحة وطنية ووحدة وطنية . ونتساءل لماذا باتت المقاومة عندنا فصائلية وموسمية ، إما إطلاق صواريخ أو محاولة اختطاف جنود ؟ ! ولماذا لا تكون مقاومة شعبية سلمية شاملة في كل مكان ؟ وفي ظني أن تفعيل مقاومة شعبية شاملة تلتقي مع حالات المقاطعة الدولية لإسرائيل والانتقادات الموجهة لها ستكون أكثر جدوى الآن من عمليات الخطف وإطلاق الصواريخ ، وستخدم أكثر قضية الأسرى.
كم هو سهل مخاطبة عواطف الجماهير بمفردات الثورة والنضال والجهاد ومقاومة الاحتلال والانتصارات التي لا تنتهي للمجاهدين والثوار وقدرة الشعب الفلسطيني الخارقة على الصمود والصبر واستعداده لتلقين العدو درسا لن ينساه الخ ، ولكن للعقل علينا حق ، وحق العقل أن نأخذ العبرة من تجاربنا السابقة ، سواء من صفقة شاليط أو من انتفاضة الأقصى أو من نتائج الحروب السابقة على غزة ، أو من عشرين سنة من المفاوضات التي سببت خرابا لا يقل عن خراب الانتفاضة عندما تم تجييشها ولم تعد تخضع لإستراتيجية وطنية موحدة . إذا وُجِد عندنا حكماء أو تصرفت الأحزاب بحكمة ،وتمت مراجعة إستراتيجية لكل ما سبق يمكننا آنذاك التوصل لإستراتيجية وطنية متعددة المسارات تجمع ما بين المقاومة والمفاوضات والشرعية الدولية .