في ليلة الاثنين الموافق اليوم الرابع عشر لمعركة "العصف المأكول"، ومع انتهاء الناطق باسم كتائب عز الدين القسام من إلقاء بيانه، والإعلان عن خطف الجندي الإسرائيلي شاؤول أرون،حتى ضجت شوارع قطاع غزة بأصوات التهليل والتكبير، وارتفعت الزغاريد، ولعلع الرصاص تعبيراً عن البهجة والسرور، ثم ما لبث أن تحركت جماهير الضفة الغربية باتجاهات الساحات والميادين العامة للاحتفال بالخبر السعيد، وبتحقيق وعد الله "ويشفي صدور قومٍ مؤمنين".
كان الخبر بمثابة البلسم لجرح مجزرة الشجاعية، والتي ذكَّرتنا دمويتها وبشاعة مشاهد الدمار بمجاز إسرائيلية مشابهة في جنين وقانا ومدرسة الفاخورة، حيث دكَّت المدفعية والطيران الحربي الصهيوني الحي على ساكنيه، ليسقط المئات من الشهداء والجرحى، ويُهجَّر الآلاف على وجوهم، في ظلِّ ظروف معيشية صعبة يمر بها قطاع غزة جراء الاحتلال والحصار.
وعلى ألحان أناشيد "لبيك يا غزة"، التي أعقبت الخبر السعيد باختطاف الجندي الإسرائيلي، صحت الكثير من شعوب الأمتين العربية والإسلامية لتعيش فرحتنا.. وتتواصل في تلك الليلة العامرة بالإيمان من شهر رمضان ترنيمات المصلين وابتهالات الصالحين من طنجة إلى جاكرتنا،تلهج بالدعاء أن يحفظ الله خطى المجاهدين والمرابطين،وأن يسدد بسهم الحق رميهم، وأن يكتب بدمائهم الطاهرة ملامح النصر والتمكين.
لبيكِ يا غزة .. يا عرين المؤمنين الصادقين.. لبيكِ إنَّ النصر آتٍ رغم أنف المعتدين.. لبيكِ يا غزة.. إن الخلد للشهداء والمستشهدين.
لقد كان شهر رمضان عبر تاريخنا الإسلامي الطويل هو شهر الفتوحات والنصر المبين، وكانت غزة؛ المكان والمكانة، هي الطريق لانتصارات المسلمين في كل معاركنا الفاصلة في عين جالوت وحطين.. وكما انكسرت شوكة الغزاة من التتار والصليبيين على أرض فلسطين، وتحطمت على صخرة هذه الأرض التي باركها الله للعالمين كل حملات البغاة المعتدين،فإن غزة العزة في وقفة البنيان المرصوص، ومعركة "العصف المأكول"، سوف تكتب صفحات النصر المبين والفتح العظيم، وستتهاوى مع بسالة رجال القسَّام وبطولة سرايا القدس وكتائب المجاهدين وألوية الناصر صلاح الدين أركان الكيان الصهيوني الاستعماري اللعين، وسترتفع رايات أمتنا ومكانتها من جديد خفاقة بين العالمين.
لقد كان أهل فلسطين –دائماً - رمزاً للتضحية والفداء، وكانوا في كل معاركهم مع المحتل الغاصب هم عناوين الشموخ والإباء..وإذا كانت حقائق التاريخ قد صدمتنا بأن الهزائم التي لحقت صفحات نضالنا مع هذا الكيان الغاصب في أعوام 1948م، 1956م، 1967م، إنما كانت بسبب هزالة المواقف والاستعدادات العربية، ومحاصرة جهادنا عبر السنين واحتوائه في عباءات أصحاب الأجندات السياسية من الرسميات العربية.
لقد بدأت مسارات الفلسطينيين على طريق ذات الشوكة، ودرب الجهاد والمقاومة، في الانتفاضة المباركة عام 1978م، وكذلك في انتفاضة الأقصى عام 2000م، وما أعقب ذلك من تجليات الانتصار في حرب الفرقان في ديسمبر 2008م، وكذلك حجارة السجيّل في نوفمبر 2012م.
واليوم، نقول لكل من يحاول التشكيك والإساءة بطهارة المقاومة ونبل أهدافها من الإعلاميين المتصهينين،ويتعمد الشماتة بألآم أهل غزة وأوجاعهم، وخذلان رجالها المغاوير، والانحياز- خسة ونذالة - إلى جانب نتانياهو هو وعسكره المعتدين، نقول لهؤلاء الإعلاميين المأجورين: موتوا بغيظكم، فإن غزة العزة - رغم الأسى والآه - ستصنع الانتصار، وستعود للفلسطيني هيبته وكرامته، وسيندم كل الذين تواطؤا وخانوا أمانة الأمة، وتنكبوا مسئولياتهم الوطنية، وذلك بالاصطفاف مع نتانياهو وجنده، وستصل لهم ما تُسوَّد به وجوههم، وتكون العاقبة "سيهزم الجمع ويولون الدبر".
إن هذه المعركة، التي استعاد فيها شعبنا الفلسطيني ومقاومته الباسلة الكثير من مشاعر الكرامة والعزة، والثقة والاطمئنان بنصر الله، وأن هذه المنازلة هي خطوة فاصلة مع هؤلاء الصهاينة، باتجاه ما هو قادم من تحقيق وعد الآخرة، حيث تأذن الله (سبحانه وتعالى) أن يبعثنَّ عليهم من يسومهم سواء العذاب.
لقد ولىَّ زمن الهزائم والانكسارات بعد أن أخذ الفلسطينيون زمام المبادرة بأيديهم، واقتربت بإذنه سبحانه لحظة المغالبة الحقيقية لمجاهدينا الأشاوس مع هؤلاء الغزاة الصهاينة.
لقد باعدت هزائم العرب في مواجهاتهم السابقة مع إسرائيل بيننا وبين أحلامنا في التحرير والعودة، ولكننا اليوم نشتم بصمودنا وتضحيات شبابنا المجاهدين في الميدان وبطولاتهم، وصبر أهلنا بالرغممما أصابهم من مقاتل في الحرث والنسل، وتألقهم في الحفاظ على معنوياتهم عالية في التحمل والاحتساب، وتجليات حالة التكافل الاجتماعي التي سادت علاقاتهم، ونجدتهم لإغاثة بعضهم البعض، بتوفير الطعام ومستلزمات المكان للمنكوبين والمتضررين من بينهم، لهي بصدق أخلاق أهل الرسالات والمصطفين الأخيار.
إن ما نشاهده من أجواء التآخي والتحاب والإيثار القائمة بين الناس هذه الأيام، والبعيدة عن حسابات "نفسي نفسي"، لتذكرنا بسنوات الانتفاضة التي انطلقت في 8 ديسمبر 1987م واستمرت حتى عام 1994م، حيث تفانى الناس واشتد ساعدهم في الأخذ بأيدي بعضهم البعض، وتدافع أهل الخير وكل ذي سعة من المال وفضل من الرزق لتقديم العون - مع حفظ الكرامة - لكل محتاج.
إن الفلسطينيين اليوم يرسمون ملامح أسطورة جديدة في البذل والتضحية والعطاء، كما أنهم يسجلون مأثرة عزٍّ وفخر في صفحات تاريخنا وتاريخ أمتنا، هذا التاريخ الذي عبثت بمسيرة أمجاده تلك التنازلات والمواقف المذلة لبعض القيادات السياسية في ساحتنا الفلسطينية.
إننا - اليوم - بهذا البنيان المرصوص خلف معركة "العصف المأكول" نستعيد زمام المبادرة، ونعيد توجيه بوصلة الصراع، لتأخذنا مساراتها - برأس مرفوعة وعزم أكيد - إلى غايات تحرير أقصانا واستعادة كرامة الوطن السليب، دون أن تلاحقنا فذلكات المنِّ والأذى، وتحميل البعض لنا جميل ما قدَّموه بالكثير من المعايرة وسوء الأدب.
إن هذا النصر الذي يتحقق اليوم يرجع الفضل فيه لله وحده، ولسواعد هؤلاء المجاهدين من كتائب القسَّام وسرايا القدس وألوية الناصر صلاح الدين، وإخوانهم المرابطين معهم في ساحات الجهاد والمقاومة من باقي فصائل العمل الوطني والإسلامي، ولصمود هذا الشعب العظيم الذي حمل لواء الدفاع عن كرامة الأمة الإسلامية، وحماية مقدساتها على مدار أكثر من ستة قرون.
إن واقعنا السياسي بعد معركة "العصف المأكول" لن يكون على شاكلة ما كان قائماً قبلها من حالة استسلام بذلة وخنوع، وأن هؤلاء الصهاينة الذين أرهقتنا غطرستهم وتطرفهم، وعدوانهم المستمر على أرضنا ومقدساتنا، فسنذيقهم سوء العذاب، وسيعودون إلى جحورهم صاغرين،كما أن جيشهم سيولِّي الدبر،مجرجراً أذيال الخيبة والهزيمة والعار .
وإذا كانت المواجهات مع جيش الاحتلال الإسرائيلي يقودها الفلسطينيون وحدهم بكل بسالة وشموخ، فيما حال الرسمية العربية ونخبها السياسية اليوم أشبه بمقولة: "فاتني طبع المجاهد، لم أعد غير مشاهد"، فإن هذا الانتصار سيكون "علامة جودة" نضالية فارقة للفلسطينيين وحدهم، وكما سجلت صفحات التاريخ أن مقاتلي جبهة التحرير الجزائرية قد انتزعت بأكثر من مليون من الشهداء استقلال الجزائر من فرنسا، واستعادت بتضحياتهم كرامة الجزائريين، وأن أفغانستان بمجاهديها قد مرَّغت أنف الجيش الأحمر وأجبرت السوفييت؛ الدولة الأعظم، على الخروج بذلة وانكسار منها، وقبل ذلك في السبعينيات، كان انتصار "الفيت كونغ" على اليانكي الأمريكي في فيتنام.. هكذا هو المشهد التاريخي في أدبياته النضالية، أنه ما ضاع حق وراءه مُطالب، وأن صاحب الحق سينتصر دائماً، وبحجم التضحيات والدماء ترتسم ملامح العظمة وتجلياتها بين الشعوب والدول.
اليوم،في المشهد النضالي والإنساني، نحن – في غزة – نرسم عبر بطولات القسام وسرايا القدس معالم العز والكرامة لفلسطين والأمة، حيث إن رسالتنا للمجتمع الدولي وكذلك للعرب والمسلمين، هي: في غزة العزة، سنظل نحفر في الأرض وفي الجدار، إما فتحنا ثغرة للنور والخلاص من الاحتلال بجدارة واقتدار، أو متنا - أبطالاً شامخين - على خط الحدود وفي وجه الجدار.. لا يأس تدركه معاولنا ولا نخشى انكسار، وغداً يكون الانتصار، غداً يكون الانتصار.
ولينصرنَّ الله من ينصره، إن الله لقوي عزيز.
فلسطين- غزة
والها الموفق،،،