هدف هذا المقال إثارة النقاش والحوار في الشأن الفلسطيني، الذي بات في هذا الوقت بالذات، ارتباطاً بالحرب التدميرية التي يشنها العدو الصهيوني منذ أكثر من شهر، على شعبنا الفلسطيني في تجمعاته المختلفة، في مناطق 48، والضفة الغربية، وقطاع غزة (على وجه الخصوص)، وليس الشتات الفلسطيني بمنأى عن ذلك.
كنت قد أنزلت ما سأورده من قضايا للنقاش والحوار في هذا المقال، على صفحتي الشخصية في الفيس بوك (مع تعديلات طفيفة) بشكل متسلسل على عدة أيام، وتابعت باهتمام التعليقات العديدة التي وردت حولها، وتفاعلت معها، وتأثرت بها، واستفدت منها، وفي ضوئها وجدت من المفيد جمعها في مقال واحد. وهنا لا أدعي بأن كل ما سأورده "بالجديد"، فمنها ما كان محور كتابة وتناول من قِبَل العديد من الكُتّاب والمثقفين والسياسيين المعنيين بالقضية الفلسطينية وأبعادها المختلفة. لكن الأهم: كم كانت هذه الكتابات مكان تناول جدي ومثمر ومنتج على الصعيد الفلسطيني؟!. هنا كان عنوان المقال (استحقاقات الانتصار: بين مفهومي الهزيمة والاستثمار)، من خلال سؤال أطرحه: كيف يمكن أن نحوّل الانتصار الذي تحقق في ميدان المواجهة مع العدو الصهيوني -رغم اللاتكافؤ الكبير في موازين القوى بيننا وبين العدو- في قطاع غزة إلى استثمار وطني وسياسي حقيقي، يدعم نضال وحقوق شعبنا وتطلعاته في الحرية والاستقلال والعودة، دون أية توظيفات فئوية ضيقة ومصلحية، قد تضعنا أمام سؤال "الهزيمة" مجدداً؟!. خاصة أن الحرب الصهيونية المُشنة في إطار تحلفاتها على الصعيدين "الإقليمي والدولي" التي برزت بوضوح خلالها، كانت في أحد أهدافها الرئيسية تستهدف القضية الفلسطينية برمتها، وضرب مقاومة شعبنا بمجملها، وفرض الاستسلام عليه، على طريق تصفيتها. وعليه فإن "استحقاقات الانتصار" التي بحاجة لاستثمارها وطنياً أوردها للنقاش والحوار، يحذوني الأمل إلى العمل على تثميرها في ساحة الفعل الوطني الفلسطيني:
أولاً: إن المقاومة الباسلة والشجاعة، والصمود البطولي، والإرادة والعزيمة القوية، والتضحيات العظيمة، والصبر وطول النفس التي أبداها ولا زال أبناء شعبنا، وخاصة في قطاع غزة، تفتح الحديث واسعاً عن "الأفق السياسي الفلسطيني" المطلوب التوافق عليه، والمُؤسس على حق شعبنا التاريخي في أرض وطنه (فلسطين). فهل لدينا الاستعداد والجاهزية لذلك، أم أن العجز سيبقى يضرب أطنابه فينا؟!، رغم أن "الانتصار" يُفترض أن يفتح باب أوسع للحوار والتوافق والانسجام الوطني بما ينهي حالة التشرذم والانقسام. وأرى أن التوافق والالتفاف الذي جرى حول مطالب المقاومة والإصرار عليها والتمسك بها، على الرغم من كل الضغوطات الكبيرة التي مورست من أطراف عربية ودولية للتخلي عنها، وتشكيل وفد فصائلي يمثل الطيف الوطني الفلسطيني، قد يفتح المجال أمام ما نصبو إلى تحقيقه، إذا ما صدقت النوايا، وتوفرت الإرادة السياسية، وغُلّبت المصلحة الوطنية.
ثانياً: لقد كانت أحد أهداف الحرب الصهيونية ضرب "وحدة الفلسطينيين"، التي نتجت عن اتفاق المصالحة أو "اتفاق الشاطئ"، حتى ولو كانت وحدة شكلية. وأستطيع القول حقاً أنها وحدة شكلية، كون أسباب وطريقة الوصول إليها، ومن ثم تطبيقاتها المتعثرة والمتوترة، لم تكن قائمة على قاعدة وحدوية وطنية، بل فصائلية كرست الثنائية (فتح – حماس) التي أوصلت للانقسام ذاته.
والسؤال الذي يُطرح بإلحاح الآن، هل هناك أولوية تتقدم الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني، في ظل المخاطر الداهمة التي تهدد وجوده وقضيته الوطنية؟!.
فالوحدة الوطنية تتعدى الفهم الفصائلي الضيق، باعتبارها وحدة القوى/الفصائل السياسية، إلى وحدة الشعب الفلسطيني، واستثمار كل مكونات قوته، بأعلى درجة من الفائدة والاقتدار، كشرط ضروري للنجاح في مواجهة الاحتلال.
ثالثاً: كان أحد الأهداف الأمريكية - الإسرائيلية، من وراء ولوج القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية، في نهج التسوية شطب المنظمة، بكل ما تمثله من هوية وطنية، وكيانية قانونية وسياسية ومعنوية للشعب الفلسطيني. وتحويلها من أداة كفاحية إلى أداة تمريرية للاتفاقات الاستسلامية.
إن القطع مع نهج التسوية، وما نتج عنه، يستتبع إعادة الاعتبار إلى منظمة التحرير بكل ما تمثله للشعب الفلسطيني من هوية وكيانية، وأداة كفاحية وحدوية، مرتكزة على أسس وطنية فعلاً وديمقراطية حقاً. بحيث يُرتقى بدورها ووظيفتها وأدائها، وبما يضمن توظيف إمكانات وطاقات وكفاءات الشعب الفلسطيني بطريقة مُثلى، في إطار الصراع التاريخي والشامل الذي نخوضه مع العدو الصهيوني.
رابعاً: عانت العلاقة بين القوى والأحزاب الفلسطينية وجماهيرها وقواعدها الشعبية، من حالة انفصال/انفصام مزمن. رغم أن هذه الجماهير أثبتت في كل المحطات المفصلية جدارتها في الدفاع عن قضيتها وحقوقها ودفء حاضنتها الشعبية أمام محاولات تجاوزها أو تبديدها أو التغول والعدوان عليها.
لقد آن الأوان لأن تدرك القوى والأحزاب خطورة استمرار حالة الانفصال/الانفصام تلك، والعمل على بناء علاقتها مع جماهيرها على قاعدة الاحترام والثقة، ومن خلال بنى وممارسات وعقلية مبدعة وخلاقة وديمقراطية، هدفها إدماج الجماهير في صميم العملية النضالية، والاستثمار الأفضل لإمكانياتها وقدراتها.
خامساً: لقد كان التعامل فلسطينياً مع أشكال وأساليب النضال قاصراً، بحيث لم نُجد توظيفها بالشكل الأفضل والأمثل في إطار الصراع مع العدو الصهيوني، للدرجة التي ذهبنا فيها من النقيض إلى النقيض في بعض الحالات، أو وضعناها في مفاضلة بين بعضها البعض، وفي أخرى أهملنا وغيبنا العديد منها، ولعل المثل الأوضح على ذلك هو الانتقال الدراماتيكي من اعتبار الكفاح المسلح وسيلة وحيدة لتحرير فلسطين وحسم الصراع، إلى اعتبار المفاوضات الوسيلة الوحيدة "لحل النزاع".
إن وعي وإدراك طبيعة الصراع مع العدو الصهيوني وتاريخيته وموضوعيته وتعدد أبعاده وجوانبه، يفترض منا التوظيف الجيد لكل أشكال وأساليب النضال: (الاجتماعية والجماهيرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والثقافية والإعلامية والعسكرية... الخ). لقد أثبتت الحرب المُشنة على شعبنا أن هذه المسألة ضرورة لا ترف.
المقاومة الحقيقية في تكامل أساليبها ومهماتها ودورها وأدائها مع حاضنتها الشعبية، التي تمنحها دفق وزخم الاستمرار والتقدم. فالمقاومة لا يمكن ومن الخطأ اختزالها في شكل/أسلوب وحيد. فنحن بحاجة للمثقف/القلم الثوري والسياسي/الدبلوماسي الوطني، والأكاديمي المهني والمتنور، والإعلامي المنتمي والمحترف، والتعاضد والتضامن الاجتماعي، والاقتصاد المقاوم، والفعل الجماهيري المتنوع، والمقاتل/العسكري المُدرب... الخ. هنا نكون أمام مجتمع/شعب مقاوم. وهذا ضرورة لتحقيق أي إنجاز/انتصار.
سادساً: مسألة التحالفات وإجادة صياغتها تعتبر أحد المهمات الأساسية لأي حركة تحرر وطني، تطمح إلى تحقيق إنجازات جدية في سياق معركتها من أجل الحرية. هذه التحالفات المبنية أساساً على قراءة واضحة لمعسكري (الأصدقاء والأعداء)، خاصة أن وضوح المعسكرين قبل وأثناء العدوان/الحرب الصهيونية المستمرة على قطاع غزة، لا يعوزها الكثير من التفكير.
إننا بحاجة لإعادة صياغة تحالفات سياسية جديدة، مع الدول التي أثبتت نظرياً وعملياً، أنها تقف إلى جانبنا، وتناصر قضيتنا وعدالتها، وتدعم مقاومتنا، وترفض الصهيونية ودولتها وإرهابها، وتؤكد حقنا في الحرية والعودة والاستقلال. على أن يكون في ذات الوقت ركيزة تلك التحالفات مع القوى والأحزاب العربية والأممية (وقواعدها الشعبية)، أساسها استعادة البعد القومي الحقيقي للقضية الفلسطينية، في إطار بعدها الأممي الإنساني. فاستمرار الفعل والنضال على هذين المستويين (الدول والقوى والأحزاب الصديقة)، يزيد الدعم والتأييد لمعركتنا المستمرة والطويلة.
سابعاً: حَفِلَ التاريخ الوطني الفلسطيني خلال الأربعة عقود الماضية بالكثير من المآثر والتضحيات العظيمة، كما حَفِلَ أيضاً بالكثير من الأخطاء والخطايا التي وقعنا بها خلال تلك المسيرة الممتدة. بحيث بات من الضرورة أن نكون أمام مراجعة وطنية شاملة، نتعرف خلالها أين أصبنا؟ وأين أخطأنا؟ وما هو المطلوب فعله؟. بما يمكننا من التوافق على رؤية وإستراتيجية عمل وطنية موحدة، تستند لحقوقنا الثابتة والتاريخية.
ثامناً: إن إنجاز مراجعة وطنية شاملة، والاتفاق على رؤية وإستراتيحية وطنية موحدة، تحتاج لإرادة ووعي شامل من كل القوى والأحزاب الفلسطينية، لتحويل الرؤية والإستراتيجية إلى ممارسة وفعل وأطر ومؤسسات بما يحوّلهما إلى إنجازات وطنية متراكمة، هي التي تعطي لأي أداة كفاحية وظيفتها ودورها وتحفظ مكانتها واحترامها من قبل الشعب. وهنا من حقنا أن نسأل إذا لم يكن استحقاق التضحيات العظيمة التي قدمت ولا زالت تقدم، والدم الغزير النازف، هو أن نصل إلى رؤية وإستراتجية وطنية وأداة كفاحية وإنجازات وطنية، فكم نحتاج من تضحيات ودماء لكي نصل ونرتقي لمستوى هذا الاستحقاق؟!. لكن لا تنسوا أن الوقت من دم أيضا.