أسئلة تتبادر إلى ذهن الكثيرين وهم يشاهدون المجازر البشعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة . ما هو سر الحقد والعداء الصهيوني لقطاع غزة ؟ وسر صمودها ومقاومتها للاحتلال ؟ ولماذا تستهدف إسرائيل غزة أكثر من المناطق الفلسطينية الأخرى ؟ . لغزة سر وقصة تمتد لأكثر من ثلاثة آلاف عام .
بالرغم من أن كل مدن وقرى وربوع فلسطين متساوية من حيث الانتماء والمشاركة في النضال الوطني،إلا أن منطقتين استقطبتا الاهتمام المحلي والدولي أكثر من غيرهما من المناطق ، وكل منهما تميزت برمزيتها وخصوصيتها التاريخية والنضالية : مدينة القدس بما لها من رمزية دينية ولكونها عاصمة دولة فلسطين ، كما تزعم إسرائيل إنها عاصمتها الأبدية ، وقطاع غزة لرمزيته الوطنية ولما شهده من أحداث وحالات عدوان لم تشهد مثيلا لها بقية مناطق فلسطين . كان الموقف مما يجري في هاتين المنطقتين بمثابة ترمومتر يؤشر على سخونة الأحداث أو هدوئها ، كما كان الموقف العربي والدولي مما يجري في هاتين المنطقتين يُقاس عليه للحكم على الموقف من القضية الفلسطينية بشكل عام .
تعتبر مدينة غزة ثاني أكبر مدن فلسطين بعد مدينة القدس حيث تُذكر غزة في أقدم الوثائق التاريخية الفرعونية التي تعود لأكثر من ثلاثة آلاف عام ، ولا ينفصل صمود غزة وتاريخها النضالي المعاصر عن تاريخها القديم في مواجهة الغزو العبراني الأول ، حيث جاء في أحد الكتب الدينية اليهودية وهو (سفر الملوك الأول) الذي يعود لعهد سليمان : إن حدود مملكة اليهود تنتهي عند حدود مدينة غزة التي لم تدخل أبدا ضمن مملكة اليهود ، وظلت بعد ذلك ملكا للفلسطينيين ( الملوك الأول 4 : 24 ) ومنذ ذلك التاريخ وغزة ملعونة عند اليهود.
غزة تلك المنطقة الصغيرة من جنوب فلسطين والفقيرة وشبه الصحراوية ، لم تتميز فقط من خلال دورها النضالي بعد الاحتلال الإسرائيلي عام 1967 – كانت آنذاك تحت الحكم العسكري المصري - بل كان دورها النضالي قبل الاحتلال لا يقل أهمية عن دورها بعد الاحتلال. فقطاع غزة حافظ على الهوية الفلسطينية بعد النكبة وفي سنوات التيه والضياع بعد أن فرضت إسرائيل جنسيتها وقوانينها على فلسطينيي الخط الأخضر ، ومنح الأردن جنسيته وقوانينه لفلسطينيي الضفتين ، فيما كان فلسطينيو الشتات يعيشون أوضاعا صعبة .
خلال سنوات التيه والضياع استمر فلسطينيو القطاع في حمل راية الهوية الوطنية والحفاظ على الشخصية الوطنية ، وخصوصا أنه بعد حرب 1948 تغيرت التركيبة الجغرافية والسكانية ، حيث رسمت اتفاقية الهدنة – اتفاقية رودس 1949 بين مصر وإسرائيل - حدودا جديدة لقطاع غزة . قطاع غزة الذي كان تعداده حوالي (80000) ثمانين ألف استقبل مع الحرب حوالي (200000) مائتي ألف من لاجئي النكبة ، مما غير من تركيبته الديمغرافية والسسيولوجية ، وأصبح ثلاثة أرباع القطاع اليوم من اللاجئين الذين كانت الغربة وحياة اللجوء دافعا قويا عندهم لرفض واقع اللجوء وإصرارهم على النضال من أجل العودة لأراضيهم التي هُجروا منها عنوة ، ولاجئو القطاع جسدوا وعبروا عن خصوصية كل قرية ومدينة فلسطينية بملابسها ولهجاتها ومأكولاتها وتجاربها النضالية وذاكرتها التاريخية .
في قطاع غزة تشكلت أولى خلايا المقاومة الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي ، وأبناء القطاع رفدوا الثورة الفلسطينية ، عندما كانت في الخارج ، بخيرة القيادات والمقاتلين ، ومن قطاع غزة انطلقت شعلة الانتفاضة الأولى 1987 ، وقطاع غزة احتضن اللبنات الأولى لمؤسسات كان يؤمَل منها تجسيد حلم الدولة ولو في إطار تسوية مشكوك بنجاحها ، فكان المطار ومقر الرئاسة (المنتدى) ومقرات وزارية والمجلس التشريعي والبدء بمشروع ميناء غزة ،بالإضافة إلى الممثليات الأجنبية ومشاريع تنموية واعدة الخ .
إن كانت غزة بالنسبة إلى الفلسطينيين تمثل جنوب فلسطين أو منطقة من فلسطين يحبونها كما يحبون فلسطين ، فإنها بالنسبة لأهل غزة تمثل مسقط الرأس أو الوطن الصغير وخصوصا بالنسبة لمن لم ير أية منطقة أخرى من فلسطين. ولكن وطن الذاكرة أو وطن مسقط الرأس مجرد إثبات مكان مولد أو ذكريات جميلة عن مرحلة الطفولة والمراهقة،إنه حب اضافي لفلسطين الوطن الكبير ، كما هو الحال لحب ابن الخليل لمدينته وحب أبن القدس لمدينته وابن يافا لمدينته.
لكن لا يمكن لمسقط الرأس أن يشكل وطنا ودولة ، ولا يمكن لأي منطقة تتميز بدور أو بخصوصية نضالية أن تشكل دولة أو كيانا خاصا ، فلكل مدينة في فلسطين تاريخها النضالي وبطولاتها المُشرفة ، ومقابر شهداء فلسطين في الأردن وسوريا ولبنان لا تميز بين شهداء مدينة ومدينة ، فالشهداء قضوا في سبيل الله والوطن وليس دفاعا عن مدينة بعينها ، وزنازين الاحتلال لا تميز بين معتقل من غزة وآخر من الضفة .
صمود وتضحيات أهل غزة ومقاومتهم للاحتلال ولكل موجات العدوان وخصوصا الأخير يعبر ويعكس صمود ونضال كل الشعب الفلسطيني . كل الشعب الفلسطيني تصدى للعدوان وعانى من العدوان . دافع وضحى في هذه الحرب أبناء غزة الأصليون ، أحفاد شعب غزة الذي واجه الغزو العبري قبل ثلاثة آلاف عام قاتلوا ودافعوا عن مدينتهم في : الشجاعية ، التفاح ، بيت حانون ، بيت لاهيا ، جباليا ، خانيونس ، ورفح . دافع وضحى في غزة أبناء وأحفاد أهالي : يافا ، حيفا ، اللد ، المجدل ، الجورة ، حمامه ، زرنوقه ، عاقر ، دير سنيد ، الرملة ، دمرة ، سمسم ، هربيا ، بيت جرجا ، السبع ،صفد، يبنا ، بيت دراس ، المغار ، الفالوجا ، صرفند ، النعاني ، المسمية ، الخ ، أبناء الجيل الذي تم تشريده من أرضه، ويريد ابناؤهم وأحفادهم الانتقام من عدو لم يكتفِ بتهجيرهم من مدنهم وقراهم بل يلاحقهم حتى في اماكن اللجوء، ويرفض حق عودتهم لأراضيهم ، وحقهم في دولة مستقلة ، ولو على جزء من ارض فلسطين.
لأن غزة كل هذا الماضي والحاضر ، ولأن غزة أيضا الواجهة البحرية الوحيدة للدولة الفلسطينية في حالة قيامها ، واحتمال وجود نفط وغاز في مياهها ، فالعدو يستهدفها . إلا أن غزة ستبقى عصية على الانكسار والخضوع ، وستستمر غزة حاضنة الوطنية الفلسطينية ، وجزءا من الدولة الفلسطينية التي ستقوم لا محالة . إذا ما تم نزع غزة من سياقها الوطني ستفقد كينونتها وتميزها وسر صمودها ومقاومتها . حمى الله فلسطين وحمى غزة من الإجرام الصهيوني ومن كل أصحاب الأجندات الخارجية التي تسعى لنزع غزة من سياقها الوطني وتحويلها لحقل تجارب لمشاريعهم المغامرة .