بينما يراقب الجميع مسارات الأمور منذ بداية العدوان الصهيوني على قطاع غزة فيما أسماه "الجرف الصامد" إلى ما قبل التهدئة الإنسانية الأخيرة بتاريخ 5/8/2014م، وهي تزداد ضراوة يوما فيوم على الأبرياء العزل -وأكثرهم من النساء والأطفال والشيوخ- ومنازلهم والبنية التحتية والاقتصادية والصحية...إلخ. وتخلل ذلك عدة اتفاقات من خلال وساطات حول تهدئة إنسانية لفترة محدودة.
ولا يختلف اثنان حول فائدة التهدئة الإنسانية بعد احتدام القتال بين طرفين لمدد طويلة، من حيث انتشال الناس –أحياء أو أموات- من تحت المنازل المدمرة.. ودفن الموتى.. وإسعاف الجرحى.. والبحث عن المفقودين.. وقضاء الحاجيات الأساسية من مأكل ومشرب وإلخ...
لكن، ومع تعدد هذه التهدئات في سياق خصوصية الحالة الفلسطينية، فإنه يتبين للمراقبين محاذير أخرى لها، منها مثلا:
1. إعادة تموضع قوات العدو وانتشارها، والتقاط أنفاسها لترتيب الأوراق بناء على معطيات الميدان وحجم الأذى الذي تلقوْه.
2. نشر الإشاعات من المرجفين، وتخذيل الناس.
3. حالة الهدوء في المدد الطويلة تجعل الناس تركن إلى طبيعتها الدفينة في حب استمرار الحياة الطبيعية الهادئة، وبالتالي زعزعة وخلخلة حالة الاحتضان الشعبي لاستبسال المقاومة في الدفع والدفاع.
4. المراهنة على تأثير العامل النفسي عند المتضررين، وذلك لدى رؤيتهم لحجم الخسائر في الأرواح والممتلكات.
5. اجتهاد حركة العملاء على الأرض -حيث يتوفر الغطاء الطبيعي لذلك مع حركة الناس- من خلال:
- العمل على تجديد بنك أهداف العدو.
- تعقب حركة المجاهدين المختفين عن الأنظار أثناء المعركة، والذين يظهروا سواء لأسباب إنسانية أو عسكرية.
- جمع المعلومات التي ترشح ويتم تداولها –استهتارا- بين جنود المقاومة حول الأشخاص أو الأهداف أو الأماكن.
6. التخفيف من حدة الضغط الدولي والسخط الشعبي على العدو، وعدم اتصال المشاهد الدموية والمجازر المروعة.
وبالنظر إلى واقع الأمر، ربما يكاد يكون الأنكى في ذلك ما قد حققه العدو شيئا ما فيما يتعلق بالجهد المبذول من العملاء على الأرض أكثر من غيره من المحاذير الأخرى. وبالرغم من إشادتنا بحجم المفاجآت حول قدرات وإمكانات المقاومة التي أذهلت العدو وأصابته في مقتل، إلا أن ذلك لا يعني عدم الالتفات لاحقا إلى بعض الأمور التي تحقق زيادة تمكين البعد الأمني الشخصي للمقاتلين في مختلف الأوقات: الحرب أو التهدئة، والمعالجة الآنية بالتعليمات الصارمة اتجاه بعض التصرفات مثل: أمن التنقل والحركة والاتصال، الثرثرة، تناقل أحداث ومجريات ميدان القتال في غير المصارف الرسمية، الخروج عن المحددات الأمنية والإعلامية كذكر مناقب الإخوة الشهداء الجهادية قبل الإعلان الرسمي، وهكذا. كما الأمر، بالتوازي، بالنسبة للأمن المجتمعي (البيئة المحيطة) التي يتحرك من خلالها المقاتلين.
وكما خسر العدو رهانه المرتبط بتفتيت الجبهة الداخلية وانفكاكها عن احتضان المقاومة، إلا أن التخوف يبقى قائما فيما يتعلق بفطرة الركون والدعة عند الناس مع مرور الوقت دون موقف واضح ومحدد. إذًا، ما هو الحل؟ وكيف السبيل؟
وقائع ومعطيات:
1. احتضان وافتخار شعبي، وصمود عسكري، وامتلاك المقاومة مقومات الصمود الطويل لردع العدو واحتفاظها ببنيتها التحتية البشرية والمادية، هي نقاط قوة لصالحنا.
2. كما لا يمكن للعدو الصهيوني المحتل الاستمرار طويلا في ارتكاب مثل هكذا مجازر اعتمادا على دعم الأنظمة الإقليمية من المحيط الإسلامي والعربي. كما لا يمكنه الذهاب بعيدا أكثر مما فعل.
3. القلق الذي يساور قيادة العدو الصهيوني المحتل من تبعات تململ الشارع الإسلامي والعربي، وانزعاج الأنظمة الغربية من طول فترة العملية وآثارها الإنسانية الكارثية التي بدأت تشق طريقها ظهورا وتفرض نفسها في الإعلام والشارع الغربي.
4. بينما لن يقبل العدو الصهيوني المحتل، ومن قبله أنظمة حلفائه (بحسب تقارير وتصريحات العدو الرسمية: السعودية ومصر والأردن والسلطة والإمارات)، أن يحققوا إنجازا سياسيا للمقاومة بعد الإخفاق المدوّي على المستوى الميداني. ولكلٍّ حساباته: العدو والحلفاء، حتى التي تتعلق بالأبعاد الانتخابية الشخصية والمستقبل السياسي.
5. وهناك انحياز مكشوف وفاضح لأنظمة دول إقليمية (إسلامية وعربية) سيما مصر لصالح العدو ضد المقاومة الفلسطينية.
6. فيما تبقى مسألة وحدة الموقف الفلسطيني اتجاه مطالب استرداد حقوقه من خلال استراتيجية المقاومة والكفاح المسلح محل اختبار لم تظهر نتائجه بعد؛ فألم الاكتواء من التجارب السابقة ما زال حاضرا.
7. وحيث أن انشغال شعوب الأمة الإسلامية والعربية في مشاكل داخلية كثيرة لديها تضعف من سرعة استجابتها، إلا أنه لا يلغيها.
8. وبرغم أن حراك النصرة في الدول الأوروبية أكبر وأوسع منه فيما نأمل من أبناء جلدتنا -دينا وعروبة-، إلا أن هناك ضعفا وبطئًا في توصيل الرسالة وتحشيد أنصار الحق والإنسانية واستغلال المنافذ الشعبية هناك.
المقترحات والتوصيات:
1. عدم تمديد التهدئة أو وقف إطلاق النار دون تجاوب حقيقي مع مطالب استرداد الحقوق الفلسطينية. وبقاء المفاوضات تحت ضغط الفعل ورد الفعل أنجع من استمرار الهدوء الحذر.
2. الثبات على الموقف التفاوضي إلى الحد الذي يعلن فيه العدو انسحابه منها. إذ، بالعادة، أمورا كالسقف الذي تتبناه المقاومة في ورقتها يحتاج وقتا لدراسة العدو وأعوانه وأذياله له، ثم الموافقة عليه.
3. هذه الحالة يجب أن تنتهي ضمن مدة محددة ليست بالقصيرة ولا بالبعيدة، إذ يجب أن يَخْبُر العدو طريقة جديدة للمفاوضات تغتنم أوراق القوة جيدا، والتي هي هنا:
- ضمان قدرة جبهتنا الداخلية على تحمل قلق وأذى الاعتداء الجوي الجبان؛ إذ ليس هناك ما يخسره –أي الشعب- سوى استهداف المقاتلين.
- الجهوزية للحرب البرية جيدا، واحتمالات مؤكدة في إيلام العدو قتلا وأسرا.
- الميل والقدرة على التعامل مع خيار حرب الاستنزاف الطويل، والذي يضمن الفراغ الدائم لغلاف غزة من المستوطنين، وفرض الحصار الجوي على العدو بتركيز الاستهداف من خلال صواريخ التصنيع المحلي على مطار بن غوريون الوحيد وكذلك بقية المنشآت الحيوية لديه مما يعني تكبده خسائر اقتصادية وزعزعة أمنه الداخلي.
- بقاء الجبهات الداخلية الأخرى (الضفة، القدس، أراضي الـ48) مشتعلة، واحتمالات مرجحة لوقوع عمليات نوعية مع مرور الوقت.
- اتساع دائرة الحراك والضغط الشعبي في الدول الغربية والعربية ضد العدو (سفارات وعلاقات). الأمر الذي يكشف سوأة الاحتلال، ويعيد توجيه البوصلة الإسلامية والعربية شيئا فشيئا لقضيتهم المركزية.
4. بقاء انسحاب الوفد الفلسطيني واردا وبقوة طالما شعر بمماطلة وتسويف العدو، أو تآمر وخيانة الوسيط. وهذا الأمر سيان بإجماع الوفد –وهو الأولى-، أو ترك خيالات المآتى الفلسطينية المتزلفة –على الأقل- بخيبتهم.
5. وجود موقف رسمي يومي من الوفد الفلسطيني حول مسار المفاوضات، وعدم ترك الساحة الداخلية تغرق في بحر التحليلات والتسريبات؛ حفاظا على تماسكها.
6. لعنة الجغرافيا الجنوبية (حاليا على الأقل) ليست أبدية، ويمكن تجاوزها بمزيد من الصبر والصمود والقوة والتمسك بتحقيق المطالب (على رأسها الميناء والمطار) فورا وصراحة وبدون مجاملة أو مرحلية.
7. الوساطة المصرية ليست مقدسة، ويمكن أيضا تجاوزها إذا ثبت تآمرها (كما تشير تصريحات العدو، فيما النظام المصري لم ينفِ)، وخيار المفاوضات المباشرة مع العدو برعاية أي وسيط نزيه وقوي أراه مرجحا.
8. عدم الركون إلى الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية، والعمل بالمقابل على تكثيف الجهود للتحشيد المستمر للرأي العام العالمي حتى فرض الحقوق الفلسطينية المرحلية.
9. أيضا البدء بتوثيق الجرائم والانتهاكات عبر المنظمات الدولية والمحلية، ونشرها على كافة المستويات.
10. الإسناد الإعلامي الجيد في التحشيد والتوجيه الداخلي والخارجي.
11. الاستمرار بالوقوف وإسناد المتضررين بشكل مستمر وبكل الإمكانات المتاحة التي تحفظ كرامتهم، وعدم الرهان فقط على الفضائل التي تتفاوت فيها عموم الناس. وفي ذلك أقصد مثالا: دور الوعاظ والمشايخ، جهات الدعم المالي والنفسي، المأوى الكريم والرعاية الصحية المناسبة والاحتياجات الإنسانية الأساسية.
وفقنا الله لما فيه خير الدين والوطن.
للكاتب / إبراهيم عمر المصري – قطاع غزة - 9/8/2014م