كانت غزة تعيش أياماً مشحونة بالخوف والمآسي تحت وطأة العدوان الإسرائيلي في صيف 2014، وكان لحي الشجاعية النصيب الأوفى في رسم لوحة جهادية نادرة، وحين يقول المرء: إن الشجاعية عنوان واسع وموطن للنضال والصمود، إنما يعني ذلك تماماً. ارتكبت قوات الاحتلال مجازر وجرائم ضد الإنسانية في حق سكانه المدنيين الأبرياء، واستخدمت فيها القوة المفرطة والقاتلة على مصراعيها بأعتى الأسلحة كمنهج مبرمج، حتى أرغمت جميع العائلات تحت راجمات القصف العشوائي إلى النزوح على ضوء النجوم في هدأة الليل، وكانت معالم الحزن ترتسم على وجوه الناس، حتى صاروا من حمّالي الأثقال.
كانت مأساة العائلات المشردة من أهل الشجاعية، التي انتقلت في إحدى ليالي العدوان القاسية إلى وسط المدينة مشياً على الأقدام، ومن دون رغيف في الطريق، تعتعتنيها نشوة غريبة ورغبة جامحة في الصراخ، بعضها تنوء تحت همومها، وبعضها تحمل وحدتها في عينيها أو على جبينها. قاسية، الشجاعية، وفي الليل تبدو بكل سكانها مثل مدينة أشباح، يحكمها الخوف والرعب.
جاؤوا جميعاً يدقون أبواب الكنائس، بعدما ضاقت بهم السبل، ولم يجدوا مكاناً آمناً لإيوائهم، فكانت الكنائس مؤهلة أكثر من غيرها لأن تضم تلك الجموع الهاربة من الموت، في صورة فلسطينية رائعة من التضامن الحقيقي والأصيل، حتى أحيا المسلمون النازحون من أهل الشجاعية يوم الخميس 26 رمضان 1435هـ/ الموافق 24 حزيران 2014م ليلة القدر في الكنائس بغزة. بعد أن افتقدت الأسر النازحة من بيوتها الأمان في المساجد. إنَّ ما يذكي هذا الشعور قول الأب مناويل مسلم، راعي الكنيسة الكاثوليكية وأحد ألمع وجوهها في فلسطين: (إذا هدموا مساجدكم، إرفعوا الآذان من كنائسنا).
هذه المنطقة التي كانت في كل تاريخها بعيدة عن التعصب الديني، بل من أحشائها خرجت مدارس التعايش الأصيل - وهو احترام حق الآخر في الاختلاف - وقدمت للإنسانية درساً بليغاً في الحوار والتسامح. كانت مشاعر الناس ما تزال حية، وكانت للأشياء معانيها الحقيقية وأحجامها الحقيقية.. لكن ماذا حدث لها الآن لكي تدخل دوامّة المطاحنات؟ لا تسألني متى سقطت غزة في مزالق الصراعات السياسية والفكرية، وصار الخلاف ضيفاً جديداً في غزة.
فقد تأسس المجتمع الفلسطيني على المحبة والود والاعتراف بالآخرين (لكم دينكم ولي دين)، تتعدد الآراء والمذاهب، ويبقى الود، فالمسيحي لم يكن يخاف المسلم، والسلم لم يكن يخاف المسيحي، كان التسامح في قلوب شعبنا مكان صدق، همهم جمع الكلمة وحرب على الفرقة والتفرقة، ومَن كان يقصد مدن فلسطين يرى تعانق الهلال مع الصليب، ويسمع امتزاج أصوات المؤذنين مع قرع أجراس الكنائس في جو أخوي فريد من نوعه، قلَّ نظيره في العالم. ولم تنشأ في المجتمع أفكار أو قصص التحذير والتخويف، التي وجدت في مجتمعات أخرى بسبب الفتن التي أثارها أصحاب الأطماع بين الطوائف والمذاهب، بما يدفع عن الغزيين تهمة التعصب الديني، مستدلاً بسماحة الإسلام وائتلاف المسلمين والمسيحيين في فلسطين، ائتلافاً يؤكده التاريخ والمصالح المشتركة، فلا يحرك ذلك أية بادرة من بث روح التعصب الديني أو إيغار صدور العامة ضده؛ فلم يدخل المجتمع الفلسطيني في صراع وشقاق بسبب المذاهب والطوائف، وإنما جاءه الصراع والانشقاق عندما نشأ الهوى الحزبي والقبلي والسياسي. وبدأت نُذُر الشؤم تلوح في الأفق ناراً تأجج في الصدور، في هذا الوقت كانت حدة الصراعات الفكرية والسياسية تنبش رماد النار الخابية في النسيج الفلسطيني، وتنفخ في سعيرها، وكانت غزة تنحدر إليها بسرعة إلى أن حصل التجاذب النهائي والانشقاق المطلق، حين حان وقت الانهيار، حين تحولت المنطقة إلى موجة انحلال عامة، وقلت يومها: كيف الدنيا تتغير، هل نحن نتغير أو غزة تتغير؟ ولكني اكتشفت أن غزة لم ولن تتغير على الرغم من تغير مَن على سطحها.