إن ما جرى من عدوان وغطرسة صهيونية على غزة العزة وتلك الصورة التي عززت إحراج للقيادة العربية والمجتمع الدولي المتواطئ مع الحصار، وإن مياه بحر غزة التي احتضنت سفن الحرية والمقاتلين المغاوير من الضفادع البشرية لا تكفي لغسل جريمة التواطؤ مع الاحتلال في العدوان وممارسة الحصار القذر على غزة، وليس المطلوب من الأنظمة العربية إصدار بيانات صحفية (افتقدناها في العدوان) وإنما مواقف حازمة في مواجهة الغطرسة والعنصرية الصهيونية. كما أن المطلوب عربياً ودولياً -بشكل رسمي- الإعلان عن تحرير الفلسطينيين العرب من سجنهم في غزة.
ومن هنا فإن اللحظة -عربياً ودولياً- تاريخية لإعلان الحرية لشعبنا بتدشين الخط البحري والبري والجوي بين فلسطين والعالم, حين يتحرك الأحرار في العالم الذين يتشبثون بالقيم في مواجهة الفاشية والاستعلاء الصهيوني. وذلك باستثمار اللحظة التاريخية الفاصلة فلسطينياً وعربياً ودولياً بأن يتم إعلان عربي ودولي رسمي بكسر الحصار عن قطاع غزة وتدشين الخط البحري الواصل بين فلسطين والعالم عبر ميناء غزة الدولي، وكذلك تدشين خط بري عبر استثمار تراكم الغضب الشعبي العربي، لتنطلق القوافل براً عبر معبر رفح غير الخاضع لقوات الاحتلال، وكذلك وفود طائرات التضامن عبر مطار عرفات الدولي.
إن ما جرى من حصار وعدوان بربري ولا أخلاقي يؤكد عقدة الفوقية والعنصرية التي تعاني منها دولة الاحتلال "نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" (المائدة: 18)، وإن دماء آلاف الشهداء والجرحى وآلاف البيوت والمساجد المدمرة قد بددت بشكل علني أوهام التسوية، ووجهت رسالة ذات دلالة بليغة أن التفاوض والتسوية "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء" (النور: 39). ولعل انتصار المقاومة دفع رمز العنصرية ليبرمان للدعوة إلى العودة إلى المبادرة العربية (موقفاً بالغ الدلالة), خاصة بعدما تحطمت الآمال في فرض السيادة الوطنية الفلسطينية على معابر قطاع غزة البرية والجوية والبحرية عبر اتفاقيات أوسلو على مدار أكثر من 20 عاماً من التفاوض.
انسحب الاحتلال مدحوراً من قطاع غزة عام 2005 ولم تنته سيطرته على البر والبحر والجو, وللأسف كرست تفاهمات واتفاقات السلطة واقع سيطرة الاحتلال, والمثال الأبرز على ذلك اتفاقية معبر رفح 2005م التي ما زال يتعذر أحياناً بها البعض لاستمرار الحصار على غزة.
والحصار المباشر للقطاع اليوم ما هو إلا انعكاس واضح لهزلية تلك الاتفاقيات التي تحتاج إلى مراجعة كاملة وفرض السيادة على معابر قطاع غزة البرية والبحرية والجوية. ويرفض النظام المصري وفقاً لحسابات ذاتية غريبة فتح الحدود مع القطاع بطريقة قانونية دولية سليمة تسمح بموجبها بحرية الحركة للأفراد والبضائع بالدخول والخروج من وإلى القطاع عبر معبر رفح البري.
إن تدشين الخط البحري بين فلسطين والعالم الخارجي -مرحلياً بين مرفأ الصيادين بغزة وميناء لارنكا القبرصي- قد يأتي اليوم كنتيجة لملحمة الصمود وأسطورة مقاومة وسنديان صبر وتضحية للشعب الفلسطيني.
ومن المفيد هنا توضيح الفرق بين مرفأ الصيادين وميناء غزة البحري, فالميناء المقترح جرت حوله مفاوضات شبه جادة بين السلطة والاحتلال استمرت ما يزيد عن عشر سنوات وتتوفر مخططات كاملة لإنشاء ميناء غزة الدولي، وقد سبق أن أشرف الكاتب على رسالة بحثية حول معيقات تدشين ميناء غزة الدولي.
وكان الاحتلال قد عرض في أثناء التفاوض إنشاء ميناء غزة العائم, وكان واضحاً أن الاحتلال يهدف إلى وضع الشعب الفلسطيني تحت ضغط دائم بحيث يتم تفكيك هذا الميناء وكأنه لم يكن في أي وقت يقرر الاحتلال.
طبقاً للقانون الدولي المنظم للعلاقات الدولية بين الدول والكيانات شبه المستقلة فإن إمكانية إنشاء خط بحري بين غزة ولارنكا القبرصي ممكن وله سند قانوني كامل، خصوصاً أن ذلك تجسد بشكل واضح بعد انسحاب (إسرائيل) من قطاع غزة عقب تنفيذها خطة فك الارتباط وإرسالها ورقة خاصة إلى مجلس الأمن تعلن فيها إخلاء مسؤوليتها عن القطاع بسبب انسحابها الكامل منه، وذلك وفق دراسة قانونية قدمها الدكتور عبد الله الأشعل في مركز إبداع للدراسات الإستراتيجية.
للأسف لم يتم التحرك القانوني على أكثر من صعيد بحيث يكون محلياً وعربياً ودولياً, وذلك من خلال رفع دعاوى قضائية ضد حكومة (إسرائيل) وأركان قيادتها أمام محكمة العدل الدولية, والمحاكم العربية والفلسطينية بالخصوص.
لا تتوفر لمرفأ الصيادين في غزة الإمكانات الفنية لاستقبال سفن البضائع والركاب بالمستوى المتوسط والكبير، وما يمكن استقباله هو قوارب صغيرة لنقل عدد قليل من الركاب فقط، وذلك لعدم وجود تجهيزات مثل منصات مناسبة ورافعات كبيرة, واستحالة وضع أي رافعة على لسان المرفأ بسبب هشاشة اللسان المكون من الردم, واستحالة دخول السفن إلى الحوض بسبب ضحالة الأعماق التي لا تتحمل دخول مثل هذه السفن, وكذلك عدم وجود معدات الاتصال والتوجيه الخاصة بالميناء. علاوة على ذلك, هناك حاجة لتوفير الإمكانات الفنية والإدارية والكوادر المدربة على إدارة الميناء طبقاً للأنظمة البحرية الدولية.
ورغم ذلك يمكن الشروع بتوفير خط بحري في حدوده الدنيا المتوفرة والعمل بسرعة لتشين ميناء غزة البحري لكسر الحصار ويتم تثبيت خط بحري كمرحلة أولى بين غزة ولارنكا، فهو ممكن وتتمحور جميعها باتجاه واحد فقط، وهو توقف سفن النقل التجارية والأفراد عند منطقة الخطاف (عمق مياه مناسب للسفينة) بعمق لا يقل عن كيلومتر واحد من خط الساحل, ومن ثم نقل وتفريغ البضائع إلى منطقة المرفأ ثم إلى داخل القطاع.
ومن الممكن كذلك أن يتم نقل البضائع على ظهر السفينة المتوقفة عند الخطاف بواسطة مراكب الجر التي يملكها الصيادون وتحميلها بواسطة العمال ومن ثم نقلها إلى المرفأ وتحميلها على الشاحنات. وكذلك الحال بالنسبة لسفن الركاب، وهذا سيكلف مالياً وتأخيراً زمنياً مربكاً ولكنه مرحلة مؤقتة.
ويمكن كذلك أن يتم شراء أو استئجار عبَارة متوسطة الحجم تتسع لنقل 2000-3000 طن لتقوم بعملية نقل الأفراد والبضائع من السفن إلى المرسى, وميزة هذه العبَارة أنها تستطيع نقل كمية كبيرة من البضائع دفعة واحدة وتحميلها من خلال سفينة كبيرة.
ويمكن كذلك اعتماد خيار آخر بأن يتم الاتفاق مع إحدى شركات النقل البحري الأجنبية (من دولة مقبولة لدى الطرفين) لنقل البضائع إلى القطاع, على أن تقوم الشركة الناقلة بتعميق الحوض وتجهيزه وتزويد المرفأ بالتجهيزات اللازمة. وهذا المقترح يعتبر الأفضل فنياً وإدارياً.
من الضروري تثبيت الخط البحري بشكل عاجل فور الاتفاق لأن ذلك سيفرض واقعاً جديداً يمكن بموجبه فتح نافذة بحرية للقطاع على العالم الخارجي, ولن يكون بمقدور (إسرائيل) إغلاقه أو التحكم فيه بسهولة في المرحلة القادمة، لأن الأوضاع الدولية والإقليمية تسير في غير مصلحة الاحتلال بعد ملحمة غزة والدماء والدمار الذي خلفه العدوان في كل مكان.
إن الرؤية المستقبلية لتدشين خط بحري: أولاً أن يكون تجاريا وهو الأهم. أما بخصوص نقل الأفراد وهو أمر سيسهل التغلب عليه مع مرور الوقت واستمرار حالة وصول السفن من لارنكا إلى غزة، على أن يتلازم معه استمرار التحرك الدبلوماسي للضغط على الاتحاد الأوروبي بضرورة السماح لحملة جواز السفر الفلسطيني من سكان قطاع غزة بدخول الأراضي القبرصية على الأقل، ومنها يتم نقلهم إلى كل دول العالم بحراً وجواً (وهذا في حال لم يتم الاتفاق على إعادة بناء مطار غزة).
مطالب الشعب الفلسطيني حقوق إنسانية سلمية وهي عنوان للقيم والمُثل العليا والخير والتواصل في العالم، والمطلوب من جميع الأحرار في العالم الالتحاق بركب الخير والحرية في العالم، وإن الدماء الزكية التي سالت من شهداء وجرحى غزة إنما تؤكد على نزع الشرعية عن المحتل الصهيوني، وأنها خطوة إضافية في طريق فضح الاحتلال وتعريته قانونياً وقضائياً وأخلاقياً، وأن هذه الدماء الغالية النازفة على مذبح الحرية ستكسر الحصار عن غزة.. طال الزمان أم قَصر، رغم الثمن الباهظ.
د. محمد إبراهيم المدهون
رئيس أكاديمية الإدارة والسياسة