نظرية المحارب "هنبعال".. "جندي قتيل أفضل من جندي أسير"

بقلم: غازي السعدي

منذ سنوات الثمانينات من القرن الماضي، تبنت الحكومة الإسرائيلية نظرية المحارب القرطاجي"هنبعال" الذي ولد عام "247" قبل الميلاد، هذا المحارب الذي نجح باجتياح إفريقيا وإسبانيا وفرنسا وسويسرا، وحاصر روما مدة (15)سنة، لكنه في النهاية فضل تناول السم عن الوقوع في أسر الرومان، ونحن لسنا بصدد تناول هذه الحقبة من التاريخ، لكن ما نحن بصدده، توضيح أن إسرائيل تبنت الإجراء الذي وضعه "هنبعال"، بإعدام ميداني للجنود الإسرائيليين قبل وقوعهم بالأسر، هذا الإجراء تم إقراره من قبل الحكومة الإسرائيلية، والذي ينص على كيفية التعامل فوراً في حالة اختطاف جنود إسرائيليين، وهذا ما حدث للجنديين الإسرائيليين اللذين وقعا في أسر الفلسطينيين، أثناء العدوان على غزة، والذي أطلقت عليه إسرائيل اسم "الصخرة الصلبة"، فقامت بإطلاق مدفعيتها على كل منهما، كي لا يقعا في الأسر الفلسطيني، مستعينة بنظرية "هنبعال"، التي تسمح بجميع الإجراءات -حتى بالإعدام- لإحباط عملية الأسر، وهذا الإجراء اتبعه الجيش الإسرائيلي في هذه الحرب، ففي شهر تشرين الأول من عام 2011، أكد رئيس أركان الجيش "بني جنتس" أن هذا الإجراء ساري المفعول، ويجب استخدامه إذا كان سيفضي إلى وقوع جنود بالأسر.

لقد تم استخدام إجراء "هنبعال" في عدة عمليات عسكرية، لكنه لم يتمكن من إحباط عمليات الاختطاف، ومنها:

- اختطاف الجنود في جبل دوف بتاريخ 7-10-2000، حيث قام سلاح الجو الإسرائيلي بقصف مواقع حزب الله الذي اختطف الجنود، كما قامت الدبابات والمدفعية الإسرائيلية بقصفها فور عملية الاختطاف.

- في أعقاب أسر "جلعاد شليط" على حدود قطاع غزة بتاريخ 25-6-2006، تم تفعيل إجراء "هنبعال" بعد ساعة من أسره، دون جدوى.

- بتاريخ 1-8-2014 خلال عملية "الصخرة الصلبة" قام الجيش بعملية قصف مكثفة جداً للمنطقة التي تم الاختطاف فيها، من أجل منع الخاطفين من الفرار مع الجندي الأسير، مما أدى إلى مصرع الجندي الأسير والخاطفين على حد سواء.

من الواضح أن إسرائيل تفضل أن تقتل أبناءها على أن يقعوا في الأسر، لما يتبع ذلك من عملية تبادل مع معتقلين فلسطينيين، واضطرارها للخضوع لمطالب الخاطفين، وهذا الإجراء بالقتل، دفع الجندي الإسرائيلي الذي كان لا يبالي في الماضي من الوقوع بالأسر، لمعرفته أن بلاده لن تتخلى عنه، بل ستخلصه من الأسر مهما كان الثمن، دفعه للإدراك بأنه إذا وقع في الأسر فإن بلاده تفضل قتله ومعه آسروه، وهذا بين أحد أمرين إذا شعر بتعرضه للأسر والاختطاف: أما أن يقاتل حتى الموت، أو أن يفر من القتال لينجو من قتل دولته له وليس آسريه، وحسب القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيلي "9-8-2014"، فقد أحبط الجيش الإسرائيلي أكثر من ثلاث محاولات، لخطف جنود داخل قطاع غزة، أثناء المعارك البرية الحالية حين لجأ الجيش إلى نظرية "هنبعال"، منها عمليتا خطف في خان يونس، وثالثة في بيت حانون، وفي أحد الاشتباكات، تم إبلاغ الضابط عبر قائد إحدى الدبابات، عن قيام مسلح فلسطيني بجر أحد الجنود إلى داخل الأنفاق في "خزاعة"، وعندها أعطيت الأوامر لقائد الدبابة، بإطلاق القذائف على الجندي والمسلح الفلسطيني، وكانت النتيجة مقتل جنديين، وإصابة عدد آخر، حسب نظام "هنبعال" وذلك لإحباط عملية الخطف، فالنظرية التي يتبناها الجيش الإسرائيلي "جندي قتيل أفضل من جندي أسير".

الملفت أن هؤلاء الجنود الإسرائيليين وعند إدراكهم لإتباع دولتهم لنظرية "هنبعال" لجأوا إلى إطلاق النار على أرجلهم، وفضلوا دخول المستشفيات على التوجه إلى غزة لأنهم أدركوا أنهم سيكونون قتلى سواء بنيران المقاومة أو قادتهم.

من جهة أخرى، فقد اعتبرت الجمعية الإسرائيلية لحقوق الإنسان، أن التعليمات المتبعة في الجيش، مع حالات اختطاف جنود غير قانونية، وتشكل انتهاكا لحقوق الإنسان، وأن تعريض حياة الجنود للخطر بغية منع أسرهم باطلة وغير قانونية، وقد حاولت الرقابة العسكرية إخفاء هذا النهج، مما أثار جدلاً بين الإسرائيليين بشأن أخلاقية هذا الإجراء.

حيث اعتبروا اللجوء إلى قتل الجنود لمنع أسرهم قرار غير مشروع، أما الجنود الجرحى وعددهم كبير، فإنهم يعانون من صدمات نفسية صعبة، وكوابيس مزعجة، من هول مشاهد الحرب، ويضطر الأطباء إلى حقنهم بمواد مخدرة ليتمكنوا من النوم، ويخضعونهم للعلاج النفسي.

في إسرائيل يشعرون أن العدوان على قطاع غزة، لم يحقق لهم شيئاً، بل أن المقاومة هي المنتصرة، رغم حجم خسائر الفلسطينيين من شهداء وجرحى ودمار، حتى أن وزير الحرب الإسرائيلي السابق "شاؤول موفاز"، يقر بفشل العدوان، ويعترف بنجاح المقاومة وفقدان ثقة سكان الجنوب بقيادتهم "معاً الإخبارية 10-8-2014"، و جاء في جريدة "يديعوت احرونوت11-8-2014"، أن وزراء حزب الليكود هاجموا "نتنياهو" بشدة، ووجهوا له الاتهامات بأن العمليات العسكرية في غزة لا تدار بصورة جيدة، ويقولون أنهم تحولوا إلى أضحوكة، وأن إسرائيل فقدت قوة الردع، وقام سكان الجنوب بتوبيخ وزير الأمن الداخلي الذي قام بزيارتهم، حيث وجهوا له كلاماً قاسياً لاستمرار إطلاق الصواريخ باتجاه بلداتهم، بعد أن قالوا لهم أن بإمكانكم العودة إلى منازلكم التي أصبحت بأمان، بل أنهم يعيشون في رعب مستمر، وقد فقدوا ثقتهم بحكومتهم التي تكذب عليهم، ووصلت إلى حد الإحباط، "يديعوت 11-8-2014"، وأن استطلاع للرأي العام الإسرائيلي أجرته القناة العاشرة، أعرب 80% من المستطلعين عن فشل القيادتين السياسية والعسكرية، بتعزيز إحساس سكان الجنوب بالأمن، في أعقاب عملية "الصخرة الصلبة"، وقال 37% أن الأوضاع الأمنية تردت، واعتبرت البروفيسور "آفة ايلوز" -رئيسة أكاديمية "بتسليل" للفنون- أن إسرائيل هي دولة ممزقة، وأن الخطر الحقيقي يأتي من الداخل، وأن إسرائيل هي قوة عسكرية كولونيالية، وجيشها يسيطر على الفلسطينيين بوسائل كولونيالية، وأنها بالغت في حربها، وفقدت الحس الإنساني، وإمكانية التعاطف مع معاناة الآخرين، فحولت الفلسطينيين إلى عدو حقيقي، وأصبحوا دون وجود ولا أسماء، وأنه حسب استطلاع آخر للرأي العام، فإن 40% من الإسرائيليين يفكرون بالهجرة من إسرائيل "معاريف 10-8-2014".

لم تعد إسرائيل بصورتها الزاهية الديمقراطية، بل أصبحت صورتها بشعة بنظر جزء كبير من العالم، وأن عشرات ألوف المتظاهرين ضد العدوان الإسرائيلي البشع على غزة، تجتاح دول العالم، حتى أن "10" آلاف يهودي أميركي وقعوا على عريضة يتبرأون فيها من سياسة الحكومة الإسرائيلية، سلمت إلى منظمة الآيباك المؤيدة لإسرائيل، كما أن المركز الإعلامي التابع للمؤسسة الصهيونية العالمية، رصد ارتفاعاً حاداً جداً، في نسبة الكراهية لليهود، أو ما يطلقون عليه "معاداة السامية"، فقد سجل شهر "تموز 1914" (318) حادثة، مقابل (66) عام 2013، أي أن هناك ارتفاعاً بنسبة (383%) فتهمة اللاسامية جاهزة لكل من ينتقد ويدين سياسة إسرائيل العنصرية، خاصة إثر العدوان على غزة، لكن الحركة الصهيونية تستغل هذا العداء لها، بتحفيز اليهود للهجرة لإسرائيل، بأنها المكان الآمن ليهود العالم، بينما أن الأمن مفقود في إسرائيل، والدليل أن رؤساء المجالس المحلية اليهودية في الجنوب، يثقون في بيانات المقاومة، ويطالبون الحكومة بأن تقول الحقيقة، ويسألون: أين الهدوء والأمن الموعود؟ حتى أن مستوطني الجنوب الذين فروا إلى وسط البلاد، يرفضون العودة إلى مستوطناتهم، وأن الغضب على الحكومة يساورهم "يديعوت 10-8-2014".

في إسرائيل انقسام بارز على المستويين الشعبي والحكومي، ففي المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، معارضة شديدة لوقف العدوان، والتوصل إلى هدنة، وبينما يؤيد "نتنياهو" و"لفني" و"يعالون" و"لبيد" الهدنة حسب ما تم التوصل إليه في القاهرة، من خلال الوسيط المصري، فإن "ليبرمان"، و"بينت" و"أهرونوفيتش" يعارضون وقف العدوان، بل يطالبون باجتياح القطاع بالكامل للقضاء على المقاومة الفلسطينية، أما العضو الثامن في هذا المجلس وهو الوزير "أردان" من حزب الليكود فإنه متردد، وهذا لا يعني أن المؤيدين حمامات سلام، بل أنهم يخشون من نتائج اجتياح القطاع، وما سيسببه لإسرائيل من خسائر فادحة بالأرواح، وعلى الصعيد السياسي الدولي، فالذين يدعون للاجتياح يريدون تقويض حكومة "نتنياهو" التخلص منها، وذلك في إطار الحرب الحزبية الداخلية، أما بالنسبة للوزير المتشدد رئيس حزب البيت اليهودي "نفتالي بينت"، فإنهم في إسرائيل يطلقون عليه بـ "داعش اليهودي"، أما الذعر الحقيقي للحكومة الإسرائيلية، فهو تشكيل لجنة التحقيق الدولية لهذه الحرب، برئاسة البروفيسور الكندي وليام شايتس، الذي تتهمه إسرائيل بمعاداتها وتحيزها للجانب الفلسطيني. وفي النهاية هذه اللجنة أسمية ومهما كانت قراراتها فإنها لن تنفذ، وسيكون مصيرها كسابقاتها في أحد الأدراج الصدئة، وستكون إسرائيل هي الكاسبة، وستعاد مع الوقت علاقاتها مع الدول التي انتقدتها إلى سابق عهدها من الود والتفاهم.