غزة في عيون الفلسطينيين

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

حلمنا صار غزة، ننام على أخبارها، ونصحو على أنبائها، فلا خبر قبلها، ولا نبأ بعدها، ولا حدث يسبقها، ولا شيء عنها يشغلنا، ولا ما يتقدم عليها،
نتابع أحداثها، ونتقصى أخبارها، ونسأل عما يجري فيها، وما يقع عليها، ونحاول معرفة ما يخطط لها، وما يريدون لها، وكيف يخططون للنيل منها أو السيطرة عليها،
نقضي الساعات الطوال أمام المحطات الفضائية، نتنقل من محطةٍ إلى أخرى لنكون معها ومع أهلها، ولو خبراً وصورة، أو بياناً وتوضيحاً، أو تعقيباً وتصريحاً،
نتابع المحللين والمعلقين، ونشاهد البرامج الحوارية، ونقرأ التعليقات الصحفية، ونقف عند مساهمات أهل غزة، ونقرأ مدوناتهم، ونحفظ مشاركاتهم، ونقدر للمدونين جهدهم، وللمساهمين دورهم، ونشكر المصورين على مغامراتهم، ونشيد بجهود الإعلاميين واجتهاداتهم، ونرى أنهم جزءٌ من المعركة، جنودٌ مقاتلون، ومقاومون استشهاديون، يقومون بالواجب، ويؤدون الدور المنوط بهم، رغم خطورته وصعوبته،
أصبحنا نتابع مع المواطنين الغزيين حركتهم، ونعرف تنقلاتهم، ومكان إيوائهم، ونحدد معهم مكان سقوط الصواريخ، ونعاين آثارها، ونرصد نتائجها، ونحدد حجم الخسائر المترتبة عليها،
باتت جغرافيا غزة الصغيرة معلومة لدينا، ومحفوظة عند صغارنا وكبارنا، فأطرافها رفح وبيت حانون، وتخومها جباليا وبيت لاهيا، والشجاعية والقرارة وعبسان، وقلبها الصبرة والزيتون والدرج والرمال، ووسطها النصيرات والبريج ودير البلح والمغازي، ويشقها شارع صلاح الدين والشرقي والطريق البحري،
غزة أعادتنا إلى فلسطين وبلداتها، عندما أطلقت المقاومة صواريخها العربية لأول مرةٍ على العفولة والخضيرة شمالاً، وعلى تل الربيع ومطار اللد، وعسقلان والفالوجا، وأسدود والرملة، وبئر السبع وصحراء النقب،
بتنا نشارك المفاوضين أوراقهم، ندرسها معهم، ونبدي رأينا فيها، ونحدد عيوبها ومساوئها، ونذكر مزاياها ومحاسنها، ونشيد ببعضها ونحذر منها أحياناً، نخاف من المنزلقات، ونخشى من المنعطفات، ونحذر من كل الاتفاقيات، وندرك أنها ملغومة، وأن العدو يكمن كالشيطان في كل تفاصيلها،
صغارنا قبل الكبار، يعرفون الكثير عن غزة، يحبونها بل يعشقونها، ويتطلعون أن يكونوا جنداً فيها، مقاتلين على أرضها، ومدافعين عن شرفها، فباتوا يقلدون المقاومة، ويحملون البندقية، ويصممون الصواريخ، ويسمونها بأسمائها التي حفظوها، حتى غدت نماذجها زينة، وأنواعها مفخرةً وشرفاً،
مفردات المقاومة طغت بين أهلنا، وسادت بين أطفالنا ورجالنا، حتى النساء بتن يدركنها ويعرفنها، ويحسن الحديث فيها وعنها، ويفضلنها عن أحاديث الزينة والمكياج، والموضة والأزياء،
الصواريخ وأنواعها، وأشكالها وأسماؤها، ومصادرها ومصانعها، والمضادات وفاعليتها، ومختلف أنواع السلاح وآثارها، باتت كلها حديث العامة، وزينة المجالس، ومتعة السمر، وسلوى السهر، من علم بها فهو عالم، ومن جهلها فهو جاهل، ومن حفظ تفاصيلها فهو الخبير،
أصبحنا نعرف كل حواري غزة وأزقتها، ونحفظ شوارعها وبلداتها، وعائلاتها وأسرها، فما من مكانٍ إلا وأصابه القصف ولحق به الدمار، وحل فيه من العدوان خرابٌ، يدل عليه ويشير إليه،
وما من عائلةٍ إلا أصيبت وابتليت، ونالها من العدوان نصيبٌ، شهادةً أو إصابة، ونسفاً للبيوت أو دماراً لبعضها، ومنهم من أُبتلي في بيته وأولاده، وفي ماله وعياله،
باتت كل برامجنا مرتبطة بغزة، ومعلقة بما يجري فيها، ومؤجلة حتى تضع الحرب أوزارها، وينتهي العدوان عليها، ويعود أهلها إلى بيوتهم وإن كانت مدمرة، ويخرج جرحاهم من المستشفيات وإن كانوا ما زالوا مرضى ويعانون، وجراحهم غائرة ويتألمون،
كل المشاريع معطلة، وكل الأنشطة معلقة، فلا دراسة ولا عمل، ولا زواج ولا فرح، ولا سفر ولا انتقال، ولا شئ مما قد يشغل البال، ويهم النفس، ويبعدنا عن غزة وأهلها،
لم يعد لكثيرٍ من متع الحياة معنى أو قيمة، فقد فقدت المتع طعمها، فلا لذة لطعامٍ أو شراب، ولا متعة في حياةٍ أو عمل، ولا احساس بالفرح أو السعادة، إلا أن تبرأ غزة وتشفى، وتستعيد أنفاسها وتحيا، وتدحر من أرضها وسمائها عدوها، وتتخلص منه وممن تبعه وعاونه، وممن سانده وأيده،
أيا غزة الإباء والشمم، والكرامة والسؤدد والعزة وعالي الهمم،
أيا رأساً مرفوعاً وقامةً منتصبة، وإرادةً عاليةً شامخة،
أيا سواعد قويةً، ويداً فتيةً، وإرادةً عصيةً، ومقاومةً عليةً،
يا حلم الأحرار، وقبلة الثوار، وملتقى الصادقين الأطهار،
أيا بلد الأبطال، ومسقط رأس الشهداء الأبرار،
يا نوراً يتلألأ، ونجماً في كبد السماء يسطع،
إن الصبح موعدك وإيانا مع النصر، أليس الصبح بقريب،