تدلنا الدروس المستقاة من مجرى الصراع العربي- الاسرائيلي المديد، على انه لم يحدث اي اختراق على الاطلاق، ولم يتم تسجيل انعطافة ابداً، او التوصل الى تفاهمات واتفاقيات سلام، الا بعد ان تقع حرب، او تندلع مواجهة حامية، تحمل الطرفين في العادة على اجراء المراجعات، واعادة تقويم الوضع، والنظر الى البدائل والفرص المتاحة بعين اخرى، ومن ثم التوصل الى استنتاجات تفضي الى ضرورة تبريد حدة النزاع، وتقتضي العودة الى طاولة المفاوضات، ثم تنتهي بعد ذلك الى تفضيل خيار السلام على خيار الحرب جزئياً وفي بعض الاحيان.
وبنظرة الى الوراء، نجد ان معاهدة السلام المصرية- الاسرائيلية الموقعة بين الطرفين المعنيين عام 1979، لم يكن من المتاح تحقيقها، الا بعد نشوب حرب اكتوبر عام 1973، كما نجد ان اتفاق اوسلو لم يكن مقدراً له ان يرى النور عام 1993، الا بعد حرب الصمود في لبنان عام 1982 وبعد انتفاضة الحجارة المجيدة عام 1987. حتى ان الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 كان هو الآخر حصيلة عمل مقاوم مكلف، أملى على اسرائيل سحب قواتها دون قيد او شرط.
وتزودنا التجربة الفلسطينية بشواهد لا حصر لها، على ان التوصل الى تفاهمات، او حتى مجرد الدخول الى قاعة المفاوضات، كانت تتم دائماً في اعقاب اندلاع مواجهات دامية مع قوات الاحتلال. ولعل انتفاضة النفق عام 1998، وما جرته من صدامات دامية، وخلقته من اجواء سياسية ضاغظة، هي المثال الاكثر وضوحاً على حقيقة ان الحرب والمواجهات العنيفة كانت هي السبيل الى حمل اسرائيل على اجراء المفاوضات مجدداً، والتوصل الى نوع من التوافقات، تماماً على نحو ما حدث في مفاوضات واي بلانتيشن في ذلك الوقت.
على هذه الخلفية، وفي اعقاب حرب الخمسين يوماً على قطاع غزة، يعاود السؤال القديم طرح نفسه اليوم، ومفاده: هل ستفضي نتائج هذه الحرب التي لا سابق لها في تاريخ النزاع الطويل، الى حمل اسرائيل على الاقرار بحقيقة ان الاحتلال الوحيد في العالم اليوم، لا سبيل له للاستمرار الى اجل غير معلوم؟ اي هل ستؤدي هذه الحرب الى فتح باب السلام الذي اوصدته اسرائيل بإحكام، وادعت في الآونة الاخيرة ان هذا الصراع لا حل له في المدى الزمني المنظور.
قبل الدخول الى متن الإجابة على مثل هذا السؤال الذي لا يمكن تأجيل جوابه بعد الآن، علينا القاء نظرة سريعة على بعض النتائج بعيدة المدى، وعلى بعض الحقائق السياسية المتكونة خلال الحرب، والمتبلورة في اعقابها، بما في ذلك ما تعلق منها بالمفاهيم، وما اتصل في خضمها من تفاعلات، احسب انها شكلت ما تسميه اسرائيل بـ "كي الوعي الفلسطيني" كياً للوعي الاسرائيلي هذه المرة، جراء اخفاقها الشديد في حسم الحرب لصالحها، وفي تكبدها خسائر مادية وبشرية وسياسية لم يسبق لها ان تكبدتها من قبل.
ففي سياق هذه الحرب العدوانية تمكن الفلسطينيون من كسب معركة الصورة تماماً (لولا الاعدامات في الشارع دون محاكمة)، والفوز بجملة طويلة من الانجازات الرمزية والمعنوية والاخلاقية، ليس فقط جراء صمودهم الاسطوري في وجه آلة قتل عسكرية جبارة، واتقانهم لغة القوة التي لا تفهم اسرائيل لغة سواها فحسب، وانما ايضاً بفضل بشاعة الصورة الاجرامية المنقولة من عين المكان في القطاع المحاصر، خصوصاً صور الاطفال والنساء المقصوفين، واشلاء المواطنين المدنيين، ومشاهد الدمار الهائل، وغير ذلك مما لا يستطيع ضمير انساني فهمه او تقبله، تحت ذريعة الدفاع عن النفس.
وفوق ذلك، فقد تمكن احفاد اللاجئين المقتلعين من ديارهم قبل اكثر من سبعين عاماً، اؤلئك الذين هجروا الى قطاع غزة شبه عراة وانصاف حفاة، وعاشوا في الخيام وبيوت الصفيح، اباً عن جد، من مقارعة اسرائيل صاروخاً بصاروخ، وحمل عشرات الالوف من المستوطنين في غلاف غزة على الهروب بعيداً، وادخال الملايين منهم الى الملاجئ في المدن والبلدات النائية. فهل كان في مخيلة اسرائيلي يسكنه غرور القوة والاستعلاء، ان يتصور في يوم من الايام، ان غزة سوف تقصف تل ابيب وحيفا والقدس والنقب وغيرها من الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1948 في العمق الاسرائيل، بعد ان كانت الحروب السابقة تجري في الفناء الفلسطيني والعربي وحده؟.
لا نود ان نبالغ كثيراً في انجازات المقاومة، ولا نرغب في التهوين بما حققته بالمقابل. ولا يجوز لنا كذلك أن نقلل من حجم الخسائر البشرية والمادية التي طالت البشر والحجر والشجر، المنازل والمتاجر والمصانع والبنى التحتية ، والأطفال والنساء والشيوخ بشكل مجنون. غير ان ما ينبغي الاشارة اليه على هذا الصعيد، هو اكتشاف اسرائيل لمحدودية قوتها الهائلة، وتأكدها من ان الاداء الفلسطيني في كل حرب جديدة يأتي افضل من سابقه، وان الشعب الذي لم يستسلم، ولم يرفع الراية البيضاء في ظل اقسى الهزائم والانكسارات الماضية، لن يفعلها بتاتاً بعد اليوم، بعد ان تجلت لديه كل مظاهر الشجاعة والمقاومة الجدية، وظفر بكل هذه المكاسب المعنوية والرمزية الهامة، وادخل اسرائيل في بحر من الاسئلة التي لا اجابة عليها.
وبالعودة الى السؤال حول ما اذا كان مقدراً لهذه الحرب الصادمة لذهنية اصحاب القلعة الحصينة، ان تشق الطريق مجدداً الى عملية سلام حقيقية، عادلة وشاملة وقابلة للحياة، فإن علينا ان لا نتعلق كثيراً بالتمنيات، ولا ان نعقد عليها الرهانات المبالغ بها، لا سيما ونحن نعلم جيداً دواخل العقلية الاسرائيلية المبتلاة بالذعر الشديد ازاء كل ما تسميه تنازلاً يفتح شهية العرب والفلسطينيين على مزيد من التنازلات الاضافية، وان كل مراجعة لسياساتها قد يفهم على الجانب الآخر بأنه دليل ضعف قد يودي بموقفها التفاوضي، ناهيك عن ان الردع هو سبيلها الى الوجود، ولا حياة لها بغيره.
ازاء ذلك كله، فإن من المرجح الا تكون الحرب العدوانية الباهظة على قطاع غزة، قد فتحت الابواب على اتساعها امام عملية سلام شاملة، والا تؤدي على الفور الى احداث تحولات عميقة في السياسات الاسرائيلية التقليدية، الا ان من المتوقع بالمقابل، ان يدفع الاخفاق الاسرائيلي في الميدان الى فتح ابواب سجالات داخلية واسعة وساخنة، تشمل مختلف الاحزاب وسائر المؤسسات السياسية والامنية، وقد يفضي ذلك الى اهتزاز الحكومة الحالية، وربما الى اعادة تكوينها على اسس ائتلافية جديدة، او حتى الذهاب الى انتخابات عامة مبكرة.
غير ان هذه الحوارات الداخلية المرتقبة، والاهتزازات الحكومية الاسرائيلية المحتملة، لن تكون سوى الجزء الطافي من جبل جليد غاطس في عمق الماء. اي ان الفشل العسكري الاسرائيلي من جهة، وبلاء المقاومة بأفضل من كل التوقعات المسبقة من جهة مقابلة، امر من شأنه الدفع باسرائيل، ان لم نقل حملها حملاً، على تدوير الزوايا الحادة، والوصول بها مرغمة الى حقيقة انعدام الحلول العسكرية لمعضلة سياسية عميقة، وعدمية استمرار التهرب من استحقاق عملية سلام جدية، ناهيك عن ضرورة الخروج من مأزق دبلوماسي صعب، وجدت نفسها غارقة فيه في اعقاب ما تم نشره من صور عن فظاعات انسانية رهيبة.
وليس من شك في ان احدى اهم نتائج هذه الحرب، ماثلة الآن في عودة القضية الفلسطينية مجدداً الى رأس جدول الاهتمامات الدولية، بعد ان ادت التطورات الاقليمية العاصفة في المحيط العربي الى انزال القضية المركزية للامة العربية الى اسفل درك الشعوب والدول المهمومة بمواجهة مصاعبها وحروبها الداخلية، وهو امر لا تستطيع اسرائيل ان تتمكن بعجرفتها السياسية المعهودة من شطبه من اجندة الدبلوماسية الدولية، التي بدأت تعي ان مفاتيح حل ازمة غزة بصورة نهائية، يقتضي التوصل الى حل شامل للقضية، التي كثيراً ما تم وصفها بأنها ام المشاكل الشرق اوسطية.
ولعل وحدة الموقف الفلسطيني، التي بدأت مظاهرها المبكرة قبل اندلاع هذه الحرب، في صورة حكومة توافق وطني، ثم تجلت اكثر فأكثر زمن الحرب ذاتها، في صورة وفد موحد يفاوض باسم الكل الفلسطيني، عامل شديد الاهمية في تكوين قاعدة لرؤية دولية فعالة، وتمهيد اطلاق حراك دبلوماسي مؤثر، على اساس ان وقف اطلاق نار طويل المدى، لن يكون مضموناً اذالم يتم وضعه في سياق اشمل، ونعني بذلك معالجة المسألة من جذورها السياسية العميقة، الماثلة في الاحتلال والاستيطان وتوقف العملية التفاوضية حول قضايا الحل النهائي.
بكلام آخر، علينا ونحن نفاوض لوقف اطلاق النار والتوصل الى الاتفاق على تهدأة طويلة المدى، ان نتجاوز مسائل المعابر ومنطقة الصيد البحري وغيرها، على اهميتها الملحّة، الى تركيز الجهود كلها على جذر الازمة التاريخية المديدة، الا وهو الاحتلال المتواصل منذ نحو سبعة واربعين عاماً، الذي هو بيت الشر، ومصدر الازمات التي ستظل توالي انفجارات المتتابعة، مرة كل سنتين او اكثر، طالما ان الاحتلال باقٍ على حاله، وكأنه الحقيقة الوحيدة التي لا تتبدل، ان لم نقل انه الحقيقة المزعومة التي لن تتمكن من ترسخ نفسها مهما طال الزمن.
وعليه، فإن علينا ادارة معركة رفع الحصار الظالم عن قطاع غزة، بذهنية وطنية جامعة، تنحو نحو معالجة هذا الامر في النطاق الاشمل للقضية الفلسطينية، من خلال وضع مسألة رفع الحصار، اي هذا الاستحقاق العاجل، في اطار استراتيجية فلسطينية بعيدة المدى، تأخذ بعين الاعتبار المخرجات الايجابية لهذه الحرب، بما في ذلك المكاسب الميدانية المتحققة، ووضعها في خدمة الهدف المركزي الفلسطيني الاول، ونعني به اعادة ربط قطاع غزة بالقدس والضفة الغربية، ليس من خلال الممر الواصل بين جناحي الوطن فقط، وانما ايضاً من خلال رؤية سياسية مشتركة بين سائر الاطياف الفلسطينية.
ان الوصول الى مثل هذا الهدف المركزي، يتطلب منا الارتقاء بمستوى ادائنا الوطني الى اعلى درجة ممكنة من وحدة الصف والكلمة، عبر الالتزام بشرعية منظمة التحرير ووحدانية يمثيلها للشعب الفلسطيني، فضلاً عن تحقيق شراكة سياسية كاملة في كل ما يتصل بالحرب والاعمار والمفاوضات، وهو ما يستدعي بالضرورة دعوة الاطار القيادي الموسع لمصدر الشرعية الفلسطينية الاوحد، واعتماده كعنوان سياسي جامع للشعب الفلسطيني كله، دون ان نغفل بالطبع عن تفعيل المنظمة، واعادة تجديد الدماء في عروقها المتيبسة.
ومن محاسن الصدف الموضوعية، ان الحرب التي بدت مؤشراتها الاولى وكأنها حرب ضد السلطة الوطنية، تهدف الى فك عرى حكومتها التوافقية الوليدة، ان لم نقل تهميش السلطة ومن ثم اخراجها من المشهد السياسي الفلسطيني، قد انتهت قبل ان تنتهي الحرب بمؤشرات سياسية معاكسة، تصب في صالح حكومة التوافق التي صارت اكثر اهمية من ذي قبل، بل وفي صالح السلطة الوطنية، التي غدت هي الاخرى بمثابة خشبة خلاص لسائر الاطراف المعنية، لا سبيل الى عقد هدنة، او فتح معابر، او اعادة اعمار، بمعزل عن هذه السلطة.
واحسب ان من بين اهم النتائج الاولية المترتبة على هذه الحرب العدوانية، هو توفر الشروط الموضوعية لعودة السلطة الوطنية الى قطاع غزة دون مكاسرات سياسية او اكراهات، وبالتالي طي صفحة الانقسام المرير بين جناحي الوطن، وانهاء ثنائية المرجعيات، على قاعدة وطنية تعيد هيكلة القيادة الموحدة وتوسع اطارها التمثيلي، بهدف تعزيز مشروعنا الوطني الاستقلالي، وتحقيق مبدأ الشراكة السياسية الكاملة الذي اشرنا اليه آنفاً.
وبالمحصلة، علينا ان نجعل مخرجات هذه الحرب، التي حققت نتائج غير قابلة للامحاء على المدى القريب، نقطة فارقة في سياق الصراع المتعدد الاشكال مع الاحتلال، وفق مفهوم ان الوضع الفلسطيني بعد هذه الحرب لن يكون كما قبلها، وان قواعد اللعبة التي حكمت هذا الصراع منذ نحو ربع قرن مضى، اي منذ قيام السلطة الوطنية، قد تغيرت الآن، او انها في سبيلها الى التغير المنشود، لا سيما وان اسرائيل التي لم تتمكن من تحقيق انتصار حاسم، رغم تفوقها العسكري الهائل، لن يكون في وسعها بعد اليوم مواصلة اعتماد منطق القوة، بدلاً عن اعتماد قوة المنطق.
ازاء ذلك كله، فإنه يمكن القول بحد ادنى من التحفظ والحذر، ان حرب الخمسين يوماً على قطاع غزة الباسل، قد وفرت قسطاً مهماً من الارضية السياسية المواتية، لشن معركة دبلوماسية واسعة، وتصعيد حدة الاشتبالك السياسي مع اسرائيل، ومحاصرتها على كل صعيد ممكن، بما في ذلك صعيد الامم المتحدة، ومحكمة الجنايات الدولية، ناهيك عن وسائل الاعلام ووسائط الاعلام التفاعلي البديل، وتجريدها من كل المزاعم القائلة انه لا وجود لشريك فلسطيني، او غير ذلك من الادعاءات الفاجرة، من وزن ان هذا النزاع غير قابل للحل.
واذا كان من غير المؤكد ان تكون مخرجات هذه الحرب غير كافية لفتح الباب على مصراعيه امام حل تفاوضي، ينتهي بمصالحة تاريخية، تلبي الحد الادنى من المطالب الفلسطينية المشروعة، بما في ذلك اقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف، وحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفق قرار الأمم المتحدة رقم 194، فإن من المرجح بالمقابل ان تؤدي منجزات هذه الحرب، ومكاسبها المعنوية والرمزية والاخلاقية، الى فتح ثغرة في الجدار، وخلق فرصة مواتية اكثر من اي وقت مضى، امام خيار السلام العادل والشامل، وذلك اذا ما احسن الطرف الفلسطيني ادارة معركته السياسية، التي لا تقل ضراوة عن هذه المعركة العسكرية الحافلة بالدروس والعبر الثمينة.
تبقى ضرورة القول، ان علينا في هذه المرحلة تجنب القفز بخطوات واسعة، والابتعاد عن روح المقامرة السياسية، وتجريب المجرّب من قبل، ناهيك عن عقد مراهنات على واقع عربي بات بلا حول ولا قوة، وتعريض وضعنا الذي لا يسرّ صديقاً، الى مزيد من الخضّات المفاجئة، خصوصاً وان هذا التحدي الذي خلقته المخرجات المتواضعة لهذه الحرب المكلفة بشرياً ومادياً، يمكن ان يوجد فرصة ضئيلة لاحداث الاختراق السياسي الذي طال انتظاره، بشرط ان نعيد ترتيب البيت الداخلي على نحو افضل مما هو عليه راهناً، وان نواصل التمسك بالثوابت الوطنية، وان ننطلق منها للمراكمة على المكتسبات المتحققة، وتحويلها من ثمة الى مكاسب نوعية.