خلف القضبان رجالُ يهربون النطف المنوية لكي تنجب نساؤهم أطفالاً يقاتلون من أجل أن تستمر الحياة نحو الأفضل، رغم السجن وحكم المؤبد وقسوة المعاملة وشدة إجراءات الحراسة والمراقبة، ويكسرون الحرمان والعزل ويفجرون ثورة بيولوجية في السجون، وينتصرون في انجاب أطفال لهم يحملون أسماؤهم لتدب الحياة داخل السجن وخارجه.
والأسير الفلسطيني عمار الزبن هو واحد من عشرات الأسرى الذين حاولوا ونجحوا في تهريب النطف المنوية وحققوا حلمهم بإنجاب أطفال لهم في رحاب الحرية والهواء الطلق.
لكنه الأسير الأول الذي نجحت عمليته وسجل انتصاراً هو الأول للحركة الأسيرة وأنجبت زوجته طفلهما الأول "مهند" عبر النطف المهربة قبل عامين، وهو الأسير الأول أيضاً الذي كرر التجربة ليسجل نجاحا ثانيا وتنجب زوجته مولود جديد قبل أيام أسمياه (صلاح الدين) وهو الابن الثاني الذي ينجبانه عبر النطف المهربة، بعد مولودهما الأول (مهند) الذي احتفل الشهر الماضي بعيد ميلاده الثاني.
وفكرة إنجاب أطفال عبر " الخلوة الزوجية " أو " التلقيح الصناعي " ، هي فكرة تراود العديد من الأسرى لا سيما ممن يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد ، وقد نُوقشت تلك الفكرة فيما بينهم بشكل صامت وفي اطار ضيق منذ أكثر من عشرين عاماً ، ولاقت قبولا لدى بعض الزوجات .
وخلال السنوات الماضية تجرأ عدد من الأسرى من تحويل الفكرة الى واقع ، وتمكنوا من تهريب " نطف منوية " لخارج السجون " ، وبالرغم من محدوديتها وعدم نجاحها ، إلا أنها عكست ما يدور في وجدان الأسرى وزوجاتهم من رغبة جامحة في تحدي السجان وتحقيق حلم الإنجاب ..
وفي الوقت الذي لا يمانع فيه الأسرى فكرة " الإخصاب الصناعي " ويبدي البعض استعدادا لتنفيذ الفكرة ، بل وحاول العشرات ترجمتها من خلال إخراج " النطف المنوي " أو تهريبه ، فأنهم يرفضون فكرة " الخلوة الزوجية " أو على الأقل غير متحمسين لها .
وفي السادس من يوليو/تموز عام 2009، أي قبل خمس سنوات تقريباً، عُرض في قاعة الهلال الأحمر بمدينة غزة فيلم برعاية جمعية الأسرى والمحررين "حسام" حمل اسم " انتزاع " وأثار فكرة تهريب " النطف المنوية " من أسير فلسطيني متزوج يقضي حكماً بالسجن المؤبد، بهدف الإنجاب وتكوين أسرة رغم الفراق القسري، وأحدث الفيلم جدلاً واسعاً، وخلق حراكاً علنياً في الكتابة والنقاش، وحظي باهتمام وسائل الإعلام المختلفة، وأفرز آراءً متعددة ما بين مؤيد ومعارض.
وحينها أعربت شخصيا وفي بيان صحفي عن إعجابي بفكرة الفيلم، وجرأة المخرج في تناول قضية إنسانية تعكس المعاناة الصامتة للأسرى وزوجاتهم، بل ودافعت في أكثر من مناسبة وعبر أكثر من بيان ومقال عن حق الأسرى بالإنجاب وستجدون الكثير حول هذا الموضوع منشور على موقعنا الشخصي "فلسطين خلف القضبان".
" عمار عبد الرحمن حماد الزبن " واحد من الأسرى الفلسطينيين الذين آمنوا بالفكرة وأصر على ترجمتها ، متحدياً مرارة السجن والفراق القسري ، وسار على خطى من سبقوه من زملائه ممن تجرأوا وحاولوا إجراء عمليات الإخصاب الصناعي من خلال تهريب " النطف المنوية " .
ولم تحبطه فشل محاولاتهم السابقة، ولن تصادر حلمه تجاربهم المريرة، ولم يلتفت إلى الآراء المعارضة أيا كان مصدرها وأصحابها .
ولم يفكر قط بما يمكن أن يصاحب العملية من انتقادات اجتماعية وعائلية، أو ما يمكن أن تتخذه إدارة السجون من إجراءات عقابية وانتقامية بحقه، وإنما تسلح بإرادة المتفاءل وعزيمة المناضل، وأصر على أن يزرع طفلا رغم أنف السجان ، وأن ينتزع حقا مشروعا أجازه الشرع الإسلامي.
وتحدى الظروف القهرية في سجن هداريم الإسرائيلي بعزيمة لا تلين، وتغلب على كل المعيقات الموضوعية والقوانين التعسفية بإرادة قوية، وسجل سابقة هي الأولى في تاريخ الحركة الأسيرة، ليسطر انتصارا جديدا يضاف لإنتصارات الحركة الأسيرة .
سابقة هي الأولى ، لكنها ليست المرة الأولى التي يُقْدِم فيها أسير على تهريب " نطفة منوية " من أجل الإنجاب عبر التلقيح الصناعي ، وإنما هي المرة الأولى التي تتكلل بالنجاح ويتم الحمل، لتضع زوجته ( دلال ) مولودها في المستشفى العربي بنابلس أوائل آب/ أغسطس عام 2012 بعد حمل استمر كالعادة لمدة تسعة أشهر ، ليتحقق حلم الأسير " عمار " ويرزق بمولود اسماه " مهند ".
" عمار" زرع طفلاً في ظلام السجن وبطريقته الخاصة والشرعية، ليبصر " مهند " النور خارج السجن بين أهله وأسرته ، ليشكل عنوانا لمعركة علنية خاض غمارها نيابة عن كافة الأسرى من أجل انتزاع حقهم المشروع بالإنجاب .
وليحتفل بطريقته الخاصة مع إخوانه الأسرى بين جدران غرف السجن الإسرائيلي ، بنجاح تجربته وتحقيق الانتصار رغم السجن وحكم المؤبد.
لم يكتف بهذا النجاح وواصل محاولاته رغم إجراءات ادارة السجن القمعية بحقه وبحق ذويه وطفله إلى أن نجح في تكرار التجربة وتسجيل انتصار ثاني قبل أيام حيث أنجبت زوجته بمولودهما الثاني عبر النطف المهربة وأسمياه (صلاح الدين)، ليكون بذلك الأسير الذي سجل النجاح الأول و الأسير الذي كرر التجربة للمرة الثانية وسجل النجاح الثاني خلال عامين.
" عمار الزبن " أسير فلسطيني يبلغ من العمر تسعة وثلاثين عاماً وتقطن عائلته مدينة نابلس ، وكان قد اعتقل للمرة الثالثة في الحادي عشر من كانون ثاني / يناير عام 1998 بتهمة الانتماء لـ " كتائب القسام " والمشاركة في سلسلة عمليات فدائية ضد الاحتلال وجنوده ومستوطنيه ، ويقضي حكماً بالسجن الفعلي لمدة 26 مؤبدا و25 سنة ، أي ( 2599 ) سنة .
وهو متزوج من امرأة فاضلة اسمها ( دلال ربايعة ) من بلدته ميثلون قضاء جنين ، وله ابنتان" بشائر" وكانت في عامها الثاني حين اعتقاله ، و" بيسان" والتي ولدت بعد اعتقال والدها.
و" عمار " هو ابن لشهيدة اسمها " عائشة " سئمت الإعتصامات أمام مقرات الصليب الأحمر ، وملت من المسيرات ، ولم تعد ترغب في سماع بيانات الشجب والإستنكار ، ومضت في طريقها الى أن حلقت روحها الى جوار ابنها الشهيد " بشار " بتاريخ 29-8-2004 خلال إضرابها عن الطعام تضامنا مع الأسرى في إضرابهم الجماعي عام 2004 ، فكانت أولى ضحايا الإضراب .
فيما والده " عبد الرحمن " توفى هو الآخر في 29 نوفمبر عام 2009 وبذلك يكون عمار قد فقد والديه خلال الاعتقال، وانضم إلى قافلة الأسرى المكلومين من أمثاله .
ويبقى " عمار " باصراره وعنفوانه يتحدى السجان ، ويبقى الإنجاب " حلم يراود الأسرى وزوجاتهم ، وسيبقى " مهند " طفل السجون الأول عنوان مرحلة من المقاومة الاستثنائية داخل السجون التي تعكس قوة الإرادة وصلابة الموقف وإصرار لا يلين نحو انتزاع الحقوق .
نعم كان عنوان لمرحلة جديدة فتح خلالها موضوع " حق الأسرى بالإنجاب" وأثير بقوة بين أوساط الأسرى وزوجاتهم، ومن قبل رجال الدين والجهات المختصة، وبين أوساط المجتمع الفلسطيني ، مما دفع الكثير من المؤسسات لدعم تلك الثورة وديمومتها والعمل على دعمها وتطويرها والسعي لانتشارها وتوفير حماية وحاضنة اجتماعية لها، ولعل أبرز الداعمين لها كانت هيئة شؤون الأسرى (وزارة الأسرى سابقا) .
وسعينا وفي أكثر من مناسبة واتجاه لإثارة الفكرة ونقاشها علانية لخلق ثقافة ايجابية ومؤثرة في أوساط المجتمع الفلسطيني بشكل عام والحركة الأسيرة بشكل خاص تدفع باتجاه تثبيت هذا الحق وضرورة النضال من أجل انتزاعه، وجراء ذلك ازدادت محاولات الأسرى وتضاعفت بشكل لافت وسجلت حالات نجاح كثيرة تقدر بـ (18) حالة، (16 في الضفة و2 في غزة)، و أن هناك نحو( 10) زوجات أسرى حوامل الآن بنطف مهربة، في حين أن عشرات الأسرى يحتفظون بنطف مجمدة بانتظار الزراعة. وفقا لمركز رزان لعلاج العقم وأطفال الأنابيب في مدينة نابلس الذي أشرف على تلك العمليات ويتابع كافة الحالات.
ولا بد من التأكيد هنا على أن " الإنجاب" عبر "التلقيح الصناعي" ، حق أجازه الشرع الإسلامي وفق ما بات يُعرف " بزراعة الأنابيب " للأزواج ، ولكن وفقاً لشروط وإجراءات تتطابق مع الشريعة الإسلامية مثل توفر شهود من أهل الزوج والزوجة يؤكدون أن هذه "النطف" من الزوج لإثبات شرعية " التلقيح " وقطع دابر الشائعات ، وأن العيادات المتخصصة بذلك منتشرة في فلسطين والوطن العربي .
والأسرى هم جزء من النسيج الاجتماعي ، و من حقهم " الإنجاب" عبر التلقيح الصناعي" إذا توفرت الإجراءات والشروط المتطابقة مع الشريعة الإسلامية ، مع ضرورة إيجاد حاضنة اجتماعية ووطنية وسياسية ودينية لدعم هذا الحق والتأكيد على إجازته وحماية زوجات الأسرى من التلسن والإساءة، وسن قوانين وآليات لتنظيم العملية وضبطها.
فهنيئاً للحركة الوطنية الأسيرة على هذا الإنجاز العظيم والانتصار الباسل والذي لم يعد الانتصار فردياً، وإنما صار جماعياً، يسير الكل نحو تعميمه، انتزاعا لـحق طالما أقرته المواثيق الدولية والشريعة الإسلامية، فيما سلبته سلطات الاحتلال التي تحاول جاهدة لإحباط هذه الثورة وإيقاف مسيرتها عبر العديد من الإجراءات العقابية بحق كل من يثبت قيامه بتهريب نطفه المنوية وبحق المواليد الجدد أيضا برفضها الاعتراف بهم وما يترتب على ذلك من آثار وتبعات، وبالرغم من ذلك فالمحاولات مستمرة والمسيرة ماضية نحو تحقيق مزيداً من الانتصار.
فهنيئا للأسير " عمار الزبن " الذي تحدى السجن وحكم المؤبد وحقق ما كان يوصف بالمعجزة وأنجب طفلا زرعه في السجن، كان عنوانا لمرحلة سجل خلالها الكثير من النجاحات والانتصارات، ويعود ليسجل انتصارا ثانيا وجديدا سيفتح آفاقا للآخرين لاستمرار محاولاتهم نحو تحقيق المزيد من الانتصارات رغم السجن وحكم المؤبد .
عبد الناصر فروانة
أسير محرر ، و مختص في شؤون الأسرى
مدير دائرة الإحصاء بهيئة شؤون الأسرى والمحررين
عضو اللجنة المكلفة بإدارة مكتب الهيئة بقطاع غزة