الممارسة في اتفاق أوسلو.. بين الحلال والحرام ؟!

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

لفهم المواقف المتبدلة والخلط الحاصل من بعض القوى السياسية الفلسطينية وما يثيره هذا من لبس في مواقفها أعيد نشر هذا المقال الذي كتب في 17/01/2006م.

تعيش الأراضي الفلسطينية المحتلة حمى التنافس الانتخابي بين مختلف القوائم التي تمثل كافة ألوان الطيف السياسي الفلسطيني باستثناء (( حركة الجهاد الإسلامي التي بقيت على موقفها الرافض لاتفاق أوسلو وإفرازاته )) والكثير من الشخصيات الوطنية المستقلة ، وتستعر حمى المنافسة الانتخابية حتى على مستوى التنظيم الواحد كما حصل في حركة فتح !! والتي تمثل في تكوينها وتنافساتها وصراعاتها الداخلية الحالة السياسية الفلسطينية العامة ، وذلك بصورة اختلفت كثيراً عن إنتخابات المجلس التشريعي التي تمت في عام 1996 م ، والتي اقتصرت المنافسة في حينه على حركة فتح لوحدها مع بعض الشخصيات المستقلة والوجاهات الاجتماعية والقوى العشائرية فقد أحجمت حركة حماس وكافة التنظيمات اليسارية والقومية عن خوض المنافسة الانتخابية في تلك المرحلة التزاماً منها بمواقفها الرافضة لاتفاق أوسلو وإفرازاته السياسية .

واليوم في عام 2006 م وبعد مضي عشر سنوات على انتخابات المجلس لأول مرة نجد هذه القوى تخوض وبشراسة حمى الانتخابات للفوز بمقاعد المجلس التشريعي ، ما الذي تغير في وضع الشعب الفلسطيني حتى تغير هذه القوى السياسية والاجتماعية مواقفها السياسـية وبالتالي موقفها من المشاركة المحمومة في التنافس على مقاعد المجلس التشريعي والذي يمثل الاطار السياسي الأبرز لإفرازات اتفاق أوسلو الموقع بين دولة الاحتلال و م.ت.ف في سبتمبر من عام 1993 م ؟! هل انسـداد الأفق السياسي أمام عملية السلام التي بدأت باتفاق أوسلو ؟! أم انسداد الأفق السياسي أمام مشروع المقاومة الذي تبنته القوى المعارضة والرافضة لاتفاق أوسلو ؟! أم المقايضة بين مشروع المقاومة والاندماج في مشروع التسوية ؟! أم جملة المتغيرات الإقليمية والدولية والتي عكست نفسها بكل تأكيد على الصراع العربي الإسرائيلي وجوهره القضية الفلسطينية ؟!

أسئلة محيرة ، تبحث لها عن إجابات من قبل هذه القوى والشخصيات التي كانت رافضة لاتفاق أوسلو وإفرازاته والتي كانت تصل درجة معارضتها إلى تحريم هذا الاتفاق شرعياً وتحريم التعامل معه ومع إفرازاته ، وقد سعت بكل جهد لها لإسقاط هذا الاتفاق الشائن حسب رأيها في حينه بل اعتقدت كثير من هذه القوى أنها انطلقت في انتفاضة الأقصى وشاركت فيها بفعالية عالية بهدف إسقاط اتفاق أوسلو وإسقاط مشروع التسوية من أجل الاستمرار في مشروع المقاومة حتى تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، وقد صرح بذلك الشهيد عبد العزيز الرنتيسي قبل استشهاده بأكثر من عـام (( أن هدف الانتفاضة هو إسقاط اتفاق أوسلو وقد انتصرت الانتفاضة في ذلك )) هكذا قال !!!

إن المتابع للبرامج الانتخابية لجميع القوى والشخصيات الفلسطينية المستقلة بالكاد يستطيع أن يجد ما يميز هذه القوى في برامجها أو شعاراتها عن بعضها البعض فجميعها تتقاطع في برامجها سواء في مفاصلها الأساسية أو الثانوية ، وجميعها تتحدث وتتكلم عن محاربة الفساد الإداري والفلتان الأمني ورفع مستوى المعيشة للمواطن وللطبقات الدنيا وتدافع عن حقوق الأسرى وأسر الشهداء وعن حقوق المرأة وحتى عن إقرار العدالة في توزيع الثروة !!!!!!

وكأنه بمجرد وصول هذه القوى والشخصيات إلى مقاعد المجلس التشريعي العتيد سوف تسن القانون القادر على إنجاز جميع هذه الشعارات والأمنيات والتي يشترك فيها جميع أبناء الشعب الفلسطيني ، وكأن هذا المجلس سيد نفسه وغير محكوم لإطاره السياسي والقانوني المؤسس له وهو إتفاق أوسلو بكل قيوده وشروطه المجحفة المكبلة لأية سلطة فلسطينية تشريعية أو تنفيذية أو قضائية في ظل دوام الاحتلال البغيض !!!!

إن صورة التحول السـياسي الكبير في مواقف كثير من القوى الإسلامية ثم اليسارية والقومية التي عارضت اتفـاق أوسلو وعارضت التعـاطي مع إفـرازاته ، يصـورها لنا تحـول موقف أحـد الأصدقاء الأعـزاء والأفاضـل والذي أكـن له بالغ التقـدير والاحترام ، هذا الصـديق قد دعيت وإياه إلى أمسـية الأسـتاذ الدكتـور راشد المـبارك " أبو بسام " الأسبوعية الثقافية والتي تعقد في مدينة الرياض الجميلة في مساء كل يوم أحـد وذلك في شتاء العام 1994 م للحديث أنا وإياه عن اتفاق أوسلو العتيد وقد ظن منظموا الأمسية يومها أنهم سوف يستمعون لوجهتي نظر فلسطينيتين متعارضتين أو إن شئتم وجهة نظر رسمية تعكس رأي م.ت.ف أو حركة فتح بالتحديد ووجهة نظر أخرى شعبية أو إسلامية ، لأن صديقي على درجة من الثقافة ويلف خطابه السياسي البعد الديني للصراع العربي الإسرائيلي رغم أنني لا أعرف له انتماء سـياسياً سوى مواقفـه المعارضة باستمرار لمنظـمة التحرير وبرامجها (( العلمانية )) !!!

وقد كان من حسن حظي أن أعطي صديقي الكلمة الأولى للحديث في تلك الأمسية عن اتفاق أوسلو ولكنه تحدث في تلك الأمسية عن كل شيء إلا عن اتفاق أوسلو حيث أثقل مسامع الحاضرين (( وهم من النخبة الثقافية والسياسية والديبلوماسية العربية المقيمة في الرياض )) بعرض تاريخي للقضية الفلسطينية لم يتجاوز في حدوده الزمنية العام 1948 م وأنهى كلامه عند هذا الحد ، مما حدى برئيس وراعي الأمسية رغم أدبه الجم أن يوجه له نقداً موضوعياً لاذعاً في هذا الشأن لعدم تناوله الموضوع محل البحث أو الحديث ، وتم اعطائي الكلمة بعد ذلك للحديث في الموضوع حيث ركزت حديثي وبطريقة مباشرة على محاور أربعة هي :

1- الاطار المرجعي السياسي والقانوني لاتفاق أوسلو

2- ما هية اتفاق أوسلو

3- حجج مؤيدي اتفاق أوسلو فلسطينياً وعربياً ودولياً

4- ملاحظات معارضي اتفاق أوسلو فلسطينياً وعربياً ،وبقيت محتفظاً بموقفي الشخصي من الاتفاق وذلك مراعاة مني للموضوعية في البحث ، خصوصاً وأنني لست بصدد تسـويق موقـفي الشخصي أو التنظيـمي في تلك الأمسـية الثقـافية الجميلة براعيها وحضورها ورقي مسـتواها ونبـل هدفـها ، وبدأ بعد ذلك النـقاش بتوجيه الأسـئلة وتقـديم بعض المداخلات من بعض الأخـوة الحضور والذين كانوا ينتظرون للإدلاء برأيهم في اتفـاق أوسلو ومعظمهم على مسـتوى المعارضة وقليل منهم من تجرأ بأن يتحدث يومها على مستوى التأييد ، وقد أجاب زميلي وصديقي المشارك في العرض على كثير من الأسئلة بشيء من الغموض مقتصراً في إجاباته على إيحاءات وإشارات تشكك بتوفر شروط الجهاد من الناحية الشرعية في فلسطين وتشكك بالتالي بتوفر شروط المفاوضات ، إلى أن أجاب مباشرة على سؤال لأحد الحضور حول شرعية اتفاق أوسلو ، بأنه حرام لعدم شرعيته وبالتالي أكد على تحريم التعاطي مع نتائجه وأوضح موقفه بالبراءة من هذا الاتفاق محافظا على نقائه وابتعاده عن ملوثات أوسلو مدعياً أن المقاومة والجهاد هما الحل عندما تتحقق الشروط الشرعية لاقامة الجهاد في فلسطين ؟!!

 

ولم تمر سوى شهور قليلة على هذه الأمسية حتى جاءني صديقي العزيز يستشيرني بالعودة إلى الوطن الغالي بعد أن بدأ تكوين السلطة على أساس اتفاق أوسلو مؤكداً لي عدم رغبته في العمل السياسي واقتصار نشاطه العام على النشاط الدعوي ومتسائلاً إن كان مثل ذلك الموقف سوف يعرضه لمكروه أم لا ، فأجبته بالقطع لا ومشجعاً له على العودة إلى الوطن لأن هدفنـا جميعاً هو تحقيق العودة إلى الوطن لما في ذلك من مركزية في صراعنا مع العدو ، وقد نفذ العودة مباشرة ، وبعد انطلاق الفضائية الفلسطينية أصبحت أشاهد له برنامج ثقافي إسلامي رائع يبث منها أسبوعياً كما أصبحت أشاهده خطيباً للجمعة وتبث الفضائية الفلسطينية خطبته وكأنها خطبة رسمية في بعض الجمع ، ومع انطلاق الحملة الانتخابية للمجلس التشريعي الثاني وجدت اسمه ضمن قوائم المرشحين المستقلين وصورته الجميلة تزين بعض حيطان الوطن التي أنت طويلاً من الاحتلال الغاشم وإجراءاته الجهنمية .

فما الذي تغير في اتفاق أوسلو حتى أقدم صديقي العزيز على تغيير موقفه من شرعية اتفاق أوسلو ومن حرمة التعاطي مع إفرازاته إلى المنافسة للفوز على مقعد في مجلسه التشريعي العتيد ؟؟!! إن الأسباب والدوافع التي غيرت موقف صاحبي بلا أدنى شك هي ذاتها التي غيرت مواقف الكثير من الحركات السياسية الإسلامية واليسارية والقومية والوطنية التي كانت معارضة ومجرمة لاتفاق أوسلو وإفرازاته من أطر سياسية وتشريعية وإدارية وأجهزة أمنية ... الخ ، هذا التغير والتقلب الذي أصبح على مايبدو السمة البارزة في منطقتنا في هذه المرحلة للأسف !!!

فعلى هذه القوى السياسية والشخصيات المستقلة التي غيرت مواقفها أن توضح للشعب الفلسطيني سبب التغيير في مواقفها من التعاطي مع إفرازات أوسلو قبل أن تنبري لتشرح له برامجها الانتخابية التغريرية والخيالية والتي سوف لن تتمكن من تنفيذ أي من بنودها ووعودها لا لعدم رغبة منها في ذلك ، بل لعدم توفر الظروف والشروط الموضوعية التي تستطيع من خلالها تلك القوى والشخصيات من الوفاء بوعودها الانتخابية والتي سوف تذهب في مهب الريح مع إقفال صناديق الاقتراع مساء يوم 25/1/2006 م ، لأن أم المشاكل التي يعاني منها الشعب الفلسطيني هي استمرار الاحتلال الإسرائيلي نفسه ، فلن تتحقق تطلعات الشعب الفلسطيني وتطلعات قواه السياسية وشخصياته الوطنية ما دام زمن الاحتلال قائم وجاثم فوق الأرض وفوق صدور أبناء الشعب ، وإن قوانين المجلس التشريعي التي سينبري لسنها المجلس العتيد لا تتعدى الاهتمام بتصريف بعض الشأن اليومي لسكان المناطق المحتلة حسب اتفاق أوسلو وهي أعجز عن أن تقتلع مستعمرة ، أو تعيد فتح طريق بين هذه القرية وتلك أو بين هذه المدينة والأخرى .. ، لذا أناشد جميع القوى والشخصيات المتنافسة أن لا تخدع نفسها قبل أن تخدع شعبها !! وتمنيه بعسل النحل ولبن الطير !! وأن تتذكر هذه القوى والشخصيات أن مرحلة بناء الدولة لا زالت في المرحلة الأولى الجنينية وأن الشعب الفلسطيني لا زال يمر في مرحلة التحرر الوطني وإنهاء الاحتلال التي بدأ مشروعها ولم يكتمل بعد وتحتاج هذه المرحلة لمزيد من الوقت والجهد والجهاد والنضال منها وتقويم المسيرة السابقة ووضع الخطط والآليات المناسبة والسليمة لإنجازها وإكمالها وفرض شروط الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة والاستقلال وبناء الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس الشريف ، والتي عندها فقط تصبح تلك البرامج الانتخابية أكثر واقعية وأكثر قابلية للتنفيذ ، ويمكن حينها إنجاز انتخابات ديمقراطية حقيقية معبرة عن آمال الشعب الفلسطيني ناخبين ومرشحين دون عوائق ومنغصات الاحتلال وعملائه .