يراقب الغزيين وأعينهم تنظر جنوباً نحو قاهرة المعز وجوهر الصقلي و مليئة بالأمل لنجاح مؤتمر إعادة أعمار غزة والمقرر عقده يوم 12 أكتوبر للعام 2014م , بعد أن انقشع الغبار ورؤية الحجم المذهل من الدمار والذي خلفه العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 يوليو للعام 2014, والذي سينجم عنه الحصول على الدعم والتمويل لإعادة الإعمار ورفع الحصار ودفع تعويضات للمتضررين وإصلاح البنية التحتية وأزمات المياه والكهرباء وغيرها والتي ستكون من مهام حكومة التوافق الوطني .
ورغم الأهمية والحاجة الفورية للبدء بالأعمار عبر إدخال مواد ومستلزمات البناء من اسمنت وحديد وحصمة وبسكورس, وما سيترتب عليها من إنعاش للقطاعات والأنشطة الإنتاجية والاقتصادية في قطاع غزة ومنها إمكانية تقليل معدلات البطالة المرتفعة والتي قفزت من 32% قبيل إغلاق الأنفاق إلى 42% بعد إغلاق الأنفاق وإلى حدود 55% بعد العدوان الأخير , من خلال زيادة عدد العاملين في القطاع الأكثر تضرراً والأكثر حصة من مشروع الإعمار وهو الإنشاءات والذي فقد وخلال أل 15 شهراً قرابة 30 ألف عامل في هذا القطاع إضافة لمثلهم في الأنشطة المرافقة له و التي تبلغ حوالي 25 مهنة كالقصارة والبلاط والسباكة والكهرباء والنجارة والحدادة وصناعة الألمونيوم وأعمال الرخام وغيرها , ولكن أن يكون إدخال تلك المواد والمستلزمات الخاصة بقطاع الإنشاءات واقتصارها فقط على خمس شركات عاملة في الأراضي الفلسطينية , فهو شكل من أشكال التوزيع غير العادل للثروات والدخول إذ افترضنا أن قطاع غزة متعطش لتلك المواد وطلبه المتنامي عليها منذ شهر مايو 2013 أثناء إغلاق الأنفاق , وستشكل بذرة أولى لتشكل المرض الهولندي ( ثراء فردي مقابل فقر مجتمعي ) كمرحلة من مراحل سابقة له, حيث انتشر هذا المرض في فترة الثمانيات ولغاية العام 2002 حيث استطاعت إسرائيل عبر سياساتها تكريس هذه الظاهرة من خلال الذروة والإنعاش الاقتصادي الوهمي والمتمثل بارتفاع الدخول والتي سرعان ما ذابت وتراجعت مع بدء الانتفاضة الثانية لترتفع معدلات البطالة والفقر في أوساط الفلسطينيين بغزة مع وجود فئة تطفلت خلال تلك الفترة كالمستوردين وكبار التجار والوكلاء, وخلال الفترة 2009-2013 ظهر هذا المرض في غزة بسبب سيادة ظاهرة الأنفاق وموجات الاحتكار والاستغلال حيث استطاع مالكي وتجار الأنفاق تكريس هذا المرض عبر تحكمهم بالأسعار والسيطرة على جل الاحتياجات الأساسية لأهالي القطاع رافقه تراكم للثروات وتوظيفها في مشاريع غير منتجة كالعقارات والمولات الاستهلاكية والسياحة وغيرها مما ضخم الثروات مقابل ارتفاع للأسعار وللبطالة والفقر لتصل إلى معدلات قياسية كوصول البطالة لحدود 50% والفقر الشديد لحدود 22% مع تراجع في المؤشرات الاجتماعية كارتفاع العنوسة والطلاق وسوء التغذية , ولكن ومع إغلاق الأنفاق " وهي شر لا بد منه " فرغم أهميتها وعلاجها لمشكلة إنسانية كتوفير السلع الأساسية وبأسعار منخفضة إلا إنها عززت نقاط ضعف جديدة بالاقتصاد الفلسطيني وعززت قيم الاقتصاد الطفيلي اللا منتج .
هذه المرحلة ستشهد نمواً في هذا المرض ولكن كيف سينشأ وينمو في ظل حالة الركود الاقتصادي وانخفاض الثروة القومية وندرة الموارد وتراجع الانتاج من خلال التالي :
أن حاجة قطاع غزة لمواد ومستلزمات البناء مرتفعة كون غزة تعاني من عجز في الوحدات السكنية يزيد عن 40 ألف وحدة مع نمو طبيعي سنوي بحدود5 آلاف وحدة , وكون الطلب مرتفع والعرض محدود فإن كل الشاحنات المقرر إدخالها لقطاع غزة ستكون من ضمن مسؤولية أل 5 شركات وعليه فإن العوائد المتوقعة ستتوزع على عدد محدود جداً مما يعني تضخم للثروات على حساب المصلحة المجتمعية حيث تقدر حاجات إعمار غزة بحوالي 4 مليارات دولار سيذهب لتلك الشركات قرابة 400 مليون دولار على حساب ربح متوسطي ب 10%, وفي المقابل سيحدث ذروة وإنعاش اقتصادي للأنشطة وأهما البناء والتشييد ويدخل قرابة 70 ألف عامل لسوق العمل وبأجور لن تزيد عن الحد الأدنى للأجور وهي 65 شيقل ومع التوقف والانتهاء من مشروع الإعمار يفقد هؤلاء العاملون أعمالهم وتتوقف الأنشطة الإنتاجية مما يعني ارتفاع للبطالة والفقر من جديد ( الفقر المجتمعي ) مقابل الثراء الفردي الذي حققته بعض الشركات , هذا الشكل المتناقض ومتعدد الأبعاد في الأراضي الفلسطينية ينذر باستدامة للمشكلة الاقتصادية والتي لطالما حذر الاقتصاديين من خطورتها على الواقع الاقتصادي والاجتماعي تمس جُل الشرائح المجتمعية , هذه المشكلة ستتفاقم في ظل غياب الرؤى الاقتصادية لمتخذ القرار الفلسطيني ومنها عدم القدرة على إعداد خطة اقتصادية تنموية مستدامة , اقتصار إدارة الاقتصاد للقطاع الخاص باتباع سياسات اقتصادية النيو ليبرالية مهدت الطريق لتلك الشركات للتوغل أكثر فأكثر لما تبقى من مقدرات اقتصادية لتعمل وفق قاعدة الرابح – الخاسر , الربح لتلك الشركات والخسارة معممة عبر إمكانية رفع الاسعار بشكل تدريجي ومن خلال سيادة نموذج سوق احتكار قلة متوقع.
وخلال العشرون عاماً الماضية ما زال الاقتصاد يعاني من استدامة لمرض هولندي مغاير لموطنه الأصلي بطابع غزي غريب , وزيادة التشوهات في بنيانه وهياكله الإنتاجية.
وعلمياً المرض الهولندي Dutch Disease هو أسم لحالة الكسل والتراخي الوظيفي الذي أصاب الشعب الهولندي في الفترة 1950-1900م بعد اكتشاف النفط في بحر الشمال , حيث زاد الانفاق الاستهلاكي الترفي , وعند نضوب الآبار زادت معدلات البطالة والفقر, ويضيف الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل جوزيف ستغليز " بعد اكتشاف هذه الموارد الطبيعية السخية اكتشف الهولنديون أنهم يواجهون معدلات متزايدة من البطالة", وزاد تفاقم المشكلة في هولندا عندما ارتفعت أسعار صرف العملة المحلية فارتفعت على أثرها الأسعار المحلية مما أدى إلى عجز السوق المحلي على تلبية احتياجات السوق المحلي وعجزها عن المنافسة في الأسواق الخارجية, وهنا تصبح الواردات أقل سعراً من السلع المحلية مما يعني زيادة الواردات والتي يقابلها تراجع في الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية ونشأ مجتمع "اللا تصنيع ", وتاريخياً عانت أسبانيا في القرن السابع عشر عند اكتشافها وسيطرتها على ثروات كبيرة في مستعمراتها في أمريكا اللاتينية , أما فلسطينياً فلا ثروات ولا موارد طبيعية وبالتالي فهي تختلف عن تلك الحالات وتأخذ شكلاً أخر , أما في حالة الحصول على دولة مستقلة وتمتلك السيادة وتم اكتشاف موارد طبيعية كحقول غاز غزة ممكن يحدث مرض هولندي يتسم بزيادة الانفاق الترفي كسمة رئيسية من سمات مجتمع غزة الاستهلاكي بامتياز ومع تراجع مثل هذه الطفرة تتوقف الأنشطة الاقتصادية لتحل محلها حالات مرتفعة للبطالة والفقر .
وغالبا ً تسعى الدول للتخلص من هذا المرض عبر سياسات اقتصادية معينة قائمة على التصنيع واستغلال تلك الثروات في مشاريع منتجة تمنع نشوء تلك الظاهرة, وعربياً رغم الطفرة الكبيرة والثروة النفطية في بعض دول الخليج وارتفاع أسعار النفط لبعض السنوات فلا زالت تعاني من زيادة في الاستهلاك الترفي وعدم استغلال تلك الموارد المالية الفائضة حاليا ولا حقا مع انخفاض أسعار النفط ل 80$ للبرميل ربما تتعرض لمشكلة المرض الهولندي ما لم تستغل فوائضها في قطاعات الاقتصاد الحقيقي المنتج وتعزيز قيم المجتمعات الصناعية وليس الاهتمام بالاستثمارات المالية كصورة وحيدة للاستثمار رغم حالة التنوع في تشكيلها للمحافظ الاستثمارية والمالية.
وفلسطينيا وبكونها لا تمتلك موارد وثروات كافية فيمكن علاج تلك الظاهرة بوسائل معينة منها إعطاء دوراً أكبر للقطاع العام وإعادة النظر ببعض السياسات الاقتصادية القائمة وإعداد موازنات عامة متوازنة ومنتجة وإستغلال الموارد المتاحة ورغم قلتها إلا أن استغلالها بكفاءة يقلل من معدلات البطالة والفقر مع بقاءها مرتفعة ولكن بحدود أقل من المعدلات السائدة حالياً , كذلك أن يكون البعد التنموي هو أساس أي قرار اقتصادي يُتخذ ولا تتم التنمية بدون شعور المواطن الفلسطيني بتغير ملموس في شتى مجالات الحياة , وذلك يتم من خلال إنشاء صندوق قومي للإنقاذ برأس مالي محلي عبر استقطاب رؤوس الأموال المحلية والموظفة بالبنوك واستثمارها في القطاعات الأكثر إنتاجا كالزراعة والصناعة وتنمية المحررات والمناطق غير المستغلة والاهتمام برفع مستوى الصحة والتعليم والبحث العلمي , والاستفادة من الطاقات المهدرة عبر توفير التمويل اللازم للخروج من مجتمع الاستهلاك ( اللا إنتاج). وعليه فإن استمرار حالة التشوه في الاقتصاد الغزي عام بعد عام سيؤرق المشكلة ويستعصى حلها في الأمد القصر والمتوسط, ويعزز لمرحلة من الانهيار الاقتصادي الذي يعتبر مستوى متقدم لحالات الركود والكساد الاقتصادي والمؤشرات الاقتصادية الكلية في قطاع غزة تنذر بذلك ما لم تضع الحكومة لخطط سليمة ورشيدة وسوية وعادلة..