رُبَّ أخٍ لكَ ليس على دِينِك...

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

إذا حلَّت الكوارث والمصائب بقوم فإنها تجلو معادن البشر، وتكشف عن مكنونات النفوس ، وتُخرج الخِبءَ في القلوب ، وتَمِيز بعضهم من بعض من خلال سبر أغوارهم ، و تفنيط نخوتهم ، ومن خلال مدى اضطلاعهم بمسئولياتهم الإنسانية بما تمليه عليهم واجباتهم ، ومن خلال تصدِّيهم الشجاع للظالم المستبد حتى تُرد الحقوق إلى مستحقيها من الضعفاء المظلومين .

قطاع غزة ؛ على مدى واحد وخمسين يوما ، كان ملعبا لآلة الحرب الغاشمة تحصد بمناجلها الأرواح وتطحن الأجساد وتنحر الأشجار وتنسف البيوت على رءوس ساكنيها المدنيين ، فيختلط الدم واللحم وأشلاء من الأطفال والنساء والأطيار والأنعام بقِطَع الحجارة المتناثرة وتحت الركام ، ولم تَسْلَم دور العبادة من التدمير. وحين اشتد القصف الجوي بصواريخ الطائرات الحربية ، وحين حمحمت مدفعية الدبابات الثقيلة ، وحين عربدت البوارج الحربية تضرب بقذائفها العمائر والأحياء السكنية ، حينها هُرع الساكنون المدنيون باحثين عن أماكن أكثر أمنا ، طالبين النجاة ، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من أنظره الله . فلجأ الناجون إلى مؤسسات دولية يلوذون بها ، فسكنوا مدارس الأونروا ، وأقاموا في ساحات المشافي وبيوت العجزة والمسنين ودور المعاقين حركيا ، ولكنها لم تَسْلَم هي الأخرى من الطائرات ومدافع الدبابات ، برغم واقعها الإنساني المحض .

وهنا ، وفي الساعات العصيبة تنكشف الأصالة عن معدن الأخوة الوطنية إذ يفتح الأخوة المسيحيون الفلسطينيون بيوتهم وكنائسهم لاحتضان من اضطروا إلى ترك بيوتهم المحطمة وراءهم ، ولم يتوان القائمون على الكنيسة في إيواء من لم يجد له مأوى عند قريب أو نسيب أو صاحب ، وتوفير سبل العيش المؤقت لهؤلاء النازحين الجدد من طعام وفراش ، وما أتيح لهم أن يقدموه من خدمات تحت وابل من القصف الجوي بالصواريخ المبصرة ، ومن قذائف المدفعية الميدانية العمياء . ويخرج صوت الأب مانويل مسلم- راعي كنيسة اللاتين الكاثوليك بفلسطين - ليصدَّ في وجه الأعداء مؤامرة تمزيق وحدة الصف الفلسطيني ، وهو يتوجه بخطابه إلى المسلمين في أجمل صورة من صور حوار الأديان ، حين استُهدفت المساجد بالتدمير قائلا : " إذا هدمت إسرائيل مساجدكم ، فارفعوا الأذان من كنائسنا ". هذا هو موقف الأُخوَّة المنسجم مع كثير من مواقفهم المشرِّفة وقت الأزمات عبر تاريخهم . ولن ننسى نحن- الفلسطينيين- موقف الراحل البابا شنودة ، حين حَّرم على نفسه وعلى الأقباط المصريين زيارة القدس وسائر الديار المعمورة بالمقدسات المسيحية مادامت هذه الديار تحت الاحتلال الإسرائيلي . كذلك لا ننسى المناضل المطران عطا الله حنا ومن قبله المجاهد كابوتشي الذي سجن ونفي من الأرض الفلسطينية ، وغيرهم كثير ممن جاهدوا وجادوا بأرواحهم وباستقرارهم ، يستمدون قوتهم الوطنية والدينية من تعاليم سيدنا المسيح – عليه السلام التي تبث فيهم روح المحبة والود والتعاون والعطاء بإحسان . ولقد امتدحهم الله سبحانه وتعالى بقوله في القرآن الكريم : " لَتَجِدَنَّ أشدَّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا . وَلَتَجِدَنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ، ذلك بأن منهم قسيسين ورُهبانا ، وأنهم لا يستكبرون " . (المائدة آية 82) .

أين نحن - المسلمين - من هَدْي القرآن الكريم وسُنة رسول الله العظيم الذي يحثنا على المحبة والتآخي والتكافل ورفع الظلم عن المظلومين ونجدة المنكوبين وإغاثة المستغيثين ؟ . أم أن القرآن يُقرأ في المناسبات لأيام معدودات من العام ، ثم يُطوى ويوضع على الرفوف يستقبل الغبار ؟. أين نحن – مسلمي هذا الزمان- من سيرة الأنصار حين استقبلوا المهاجرين في المدينة المنورة واقتسموا معهم السكن والفراش والطعام والشراب وزوجوا من كان منهم بلا زوج ؟. أي وشيجة تربطنا بأولئك العرب المسلمين الأوائل حين يمتنع بعضنا عن التآخي والتكافل، وحين يرفع بعضنا قيمة إيجار الشقق لمن أراد أن يستر أسرته في شقة يستأجرها بعد أن اضطر إلى النزوح من بيته الذي دمرته آلة الحرب ، ووارت تحت ركامه بعض أفراد العائلة ، وكأن أمره لا يعنيهم ، ولا يعني أولي الأمر فينا ؟.

لقد أثبت العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة 2014 أن الشعب الفلسطيني وحيدا في ساحات الحرب ، وحده يدفع العدوان عن نفسه ، وحده يموت ولا بواكي عليه . فالعرب صامتون ، والمسلمون ساكتون ، وكلهم يلهو ويتفرج على دراميات الحرب ، وكأنهم يتفرجون على فيلم هندي أو مسلسل تركي ، يمزُّون شرابهم بأنين الجراح ، وصراخ الأطفال وعويل النساء ، ويتساءل الفلسطينيون وهم بين فكي الموت : أين العرب ؟ أين المسلمون ؟! . يستصرخون الأنصار والمهاجرين ، ويستغيثون بالأمويين والعباسيين ، ويستنجدون بالفاطميين والإدريسيين ، دون جدوى ، ذلك لأنهم فُطموا عن النخوة العربية وشهامة الفرسان ، ألا تُعسا لأقوام العرب ، وتبَّت يدا أبي لهب !. فقد ثبتت لنا رؤية سقوط الأخوة العربية والإسلامية التي رضعناها ونحن صغار، ونشأنا عليها ونحن كبار. وليس لنا والله إلا أن نعتصم بالله سبحانه ، وأن نتمسك بأخوتنا الفلسطينية وبوحدتنا الفلسطينية ، وأن يجتمع الكل الفلسطيني تحت خيمة م .ت . ف ، يَصُدُّون عنها وعنهم رياح السَّمُوم التي تهب من صحارى العرب .

ومن عجب يثير الدَّهَش أن يستفز حجم العدوان الإسرائيلي وبشاعته دول أمريكا اللاتينية ، وكثيرا من الدول في الأرض بمختلف أديانها وأطيافها القومية ، فجاهرت حكوماتها في بياناتها الرسمية تندد بإسرائيل على الإفراط في القتل وقوة التدمير, وتطالبها بوقف العدوان . واستنكرت شعوبها في مظاهرات غاضبة فظاعة الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية . وكانت فنزويلا وبوليفيا وتشيلي والبرازيل والأرجنتين والسلفادور وغيرها ، أشجع من العرب العاربة وأجرأ من العرب المستعربة ، وأعظم نخوة من المسلمين المستسلمين لإرادة أمريكا وإسرائيل ، حين أغضبهم موتنا ، وحين أبكاهم حزننا ، وحين أعربوا عن شديد تعاطفهم ومواساتهم لنا في محنتنا ، وحين تفوقت نخوتهم الهندو- أوروبية واللاتينية على النخوة العربية القرشية وهزمتها. وكان العالم جله ضد إسرائيل سواء بالمجاهرة الصريحة أو على شيء من الاستحياء إلا العرب وأمريكا الصديقة الحميمة لأصحاب اللحى والعمائم ممن يعيشون في حمايتها وتحت عباءتها . أمريكا التي يُنَصِّبها العرب وسيطا وحَكَماً بينهم وبين إسرائيل . أمريكا التي استجابت لطلب إسرائيل ووافقت على تزويدها - خلال أيام الحرب - بما تحتاج إليه من ذخائر للإبقاء على شهية قتل الفلسطينيين مفتوحة ، ولمواصلة تأجيج نار المحرقة الصهيونية في ديارنا الفلسطينية.

تبقى قضية مهمة يجب توضيحها ، وهي التعميم في اتهام الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بأنه ينتمي إلى حركة حماس التي تستمد قوامها من الإخوان المسلمين ، وهذا اتهام باطل باطل باطل ، فيجب على مصر عبد الناصر حفظها الله ورعى الله شعبها العظيم من شر الفتن الطائفية – يجب على مصر السيسي شقيقة العرب الكبرى أن لا تأخذ أهل قطاع غزة كله بجريرة حماس التي لا تشكل في مجموعها قبل الحرب الأخيرة أكثر من 25% من عدد سكانه ، وربما تحتاج هذه النسبة إلى استفتاء جديد بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أن سكت عن غزة الغضب وفارقها الخوف . إذن ليس كل الشعب الفلسطيني في قطاع غزة ينتمي لحماس ، بل إن أكثر من 40% من سكانه ليسوا حزبيين ، وإنهم عرب أقحاح ومصريو الهوى ، ولكنهم مُغَيَّبون حين يجتمع كل من هب ودب من الفصائل لتقرير مصير سكان القطاع ، فلا يمثلهم من القطاع أحد ، ولا أحد يسألهم رأيهم ، ولا أحد يأخذ برأيهم ، وكأن القطاع تحوَّل إلى إقطاعيات لفتح وحماس وجهاد وشعبية ، وغيرها من الفصائل الأخرى التي ليس لها حضور على الساحة الفلسطينية إلا في المناسبات ، والتي لا يزيد عدد أعضاء بعضها على عدد ركاب ميكرو باص هونداي . نعم أيتها الشقيقة مصر نحن عرب قوميون هويتنا فلسطينية وهوانا في القدس والقاهرة والاسكندرية ، لأننا نقرأ التاريخ ونستوعب دروسه ونتفهمها جيدا ، ونستطيع أن نفرق بين الأخ الحقيقي وبين الأخ الربيب . فعاشت مصر مصونة ، وتعسا لسدنة الكعبة ، وبئس الرجال سدنة الأقصى وحراس الهيكل المزعوم من ربائب الهاشميين في المشرق العربي ومغربه ومن لفَّ لفهم ، الذين يراءون ويتباكون ويمنعون الماعون ، وتبَّت يدا قطر ! تلك الدويلة التي تُقام على أرضها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط ، والتي رسمت لها الصهيونية الأمريكية دورا تلعبه في الساحة العربية أكبر من حجمها وذلك برعاية وحماية الأسياد . وليت حماس - التي يقيم رئيس مكتبها السياسي فيها - تفتح عينيها وقلبها ، حتى لا تتمادى في الانخداع بدَوْر قطر وغير قطر ممن يَجُرُّون الشعب الفلسطيني إلى المحرقة لإبادته بعلم الوصول ، وعسى الله أن يهدي حماس إلى رؤية أشياء أخرى ، أغلى وأنفس من الدولار، وأثمن من ورقة عفارم تُعلَّق على الجدران ، وأعظم وأدوَم من كرسي الحكم الذي ألحق بنا الانقسام والدمار . إن واقع حياتنا في قطاع غزة يبعث على الغثيان والاشمئزاز والتقيؤ ، فقد عدنا إلى حياة البداوة في العصور الوسطى ، نعيش ليلنا ونهارنا في عتمة كئيبة ، والآمال المستقبلية أيضا معتمة وبلا ملامح ، وها هو الفقر يكشر عن أنيابه ، والبطالة تحُط رحالها وتضرب أطنابها ، فلا تأخذونا بجريرة حماس يا ناس !، فنحن أكثرنا ليس حماس وليس فتح وليس حزبيا أبدا ، ولكننا مع السلطة الوطنية الشرعية المنتخبة . وأخيرا ليس لنا إلا أن نرفع الأكف وعيوننا معلقة في السماء ضارعين: يا ألله يا ألله مالنا غيرك يا ألله. و يا ألله يا ألله خلِّصنا من كل الأحزاب يا ألله !.*