بسرعةٍ وبمسؤوليةٍ، وبكثيرٍ من الخوف والقلق، بدأ الإسرائيليون في محاسبة المسؤولين عن الفشل الذي وقع فيه قادة جيشهم وقيادته السياسية خلال عدوانهم على قطاع غزة، ولعلهم لم ينتظروا طويلاً إثر انتهاء الحرب، ولم يعطوا المؤسسات القانونية الفرصة لفتح ملفات التحقيق بصورةٍ رسمية، وهو ما تلجأ إليه عادةً قيادة أركان جيش العدو، والهيئات القضائية التي يطلب منها التحقيق، لمعرفة الأخطاء ومرتكبيها، ومراجعة القرارات وتقييمها، ودراسة حالات الفشل، وتقدير الخسارة، ومعرفة أسباب العجز، والكشف عن الثغرات والسلبيات، وبيان عوامل القوة لدى الخصم، وكيفية إدارته للمعركة، ومواجهته خطة الجيش، ومحاولته إفشالها، ومعرفة سبل اختراقه للجبهة الداخلية، وتمكنه من التسلل خلف خطوط النار، ونجاحه في عمليات الإنزال، فضلاً عن تجسسه على المكالمات الهاتفية، والحسابات الشخصية، ودخوله على قنوات البث التلفزيونية المحلية والفضائية، وتعميمه تحذيراتٍ وتوجيهاتٍ عامة وخاصة عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، لذا فقد عجلوا بدافعٍ من الخوف والقلق، في إعداد لائحة الاتهام، واستعراض الأدلة والبراهين، وبدأوا في تقديم عددٍ من المسؤولين للمحاسبة والسؤال.
عجل الإعلاميون قبل غيرهم في فتح كل الملفات، وطرح مختلف القضايا، وإثارة التساؤلات، عن نتائج الحرب، وما آلت إليه الأوضاع بعد أكثر من خمسين يوماً من القتال العنيف، ونتائج العملية العسكرية على الداخل الإسرائيلي، وبنية المجتمع وتماسكه الداخلي، وقدرته على الصمود والثبات، وفي أن يكون عامل قوة للجيش في عملياته، بدل أن يكون خاصرته الضعيفة، التي يدخل منها الخصم، ويسجل من خلالها انتصاراته، ومدى إمكانية أن يخوض الجيش حروباً قادمة، وما إذا كانت حرب غزة إشارةً واضحة، وبياناً جلياً، ونموذجاً مصغراً ومختصراً، عن صورة حربٍ شاملة، تكون أطرافها دولٌ بعيدة وقريبة، وجيوشٌ مدربة ومؤهلة.
وبدأ الإعلاميون في فتح ملفات علاقات الكيان الصهيوني مع المجتمع الدولي، والتغييرات اللافتة في الخطاب الأوروبي مع الحكومة الإسرائيلية، وتطبيق سلسلة من الإجراءات العقابية الاقتصادية ضد المستوطنات الإسرائيلية، وبداية دخول الكيان الصهيوني في عزلةٍ دولية حقيقية، بعد أن بات خطابه السياسي مرفوضاً ومكروهاً، بعد صور الحرب والدمار الذي خلفها جيشهم في قطاع غزة، خاصةً أن الكثير من المؤسسات والمشاريع المدمرة، كانت ممولة أوروبياً، وتخضع لرعاية وإشراف المؤسسات الدولية والأممية، وهو ما أظهر الجيش الإسرائيلي في صورةٍ بشعةٍ مقيتةٍ، تخالف الصورة التي يدعيها وقيادته، بأنه الجيش الأكثر أخلاقية، والأعلى مناقبية في المنطقة.
لكن التحقيق الأهم والأكثر جدية، هو التحقيق الداخلي الذي بدأت به مؤسسة قيادة الأركان الإسرائيلية، التي تعرف أكثر من غيرها مواطن الفشل، وأسباب الخلل، والجهات المسؤولة عن نتائج الحرب، لكنها تحاول أن تبرئ نفسها من النتائج غير المرضية، وتحمل القيادة السياسية المسؤولية الكاملة عن حالة الاضطراب والتردد الذي وقع فيه الجيش، وما أسمته بحالة "الأيدي المرتعشة" التي طغت على أداء الحكومة الإسرائيلية ورئيسها، وحالة التردد السياسي العام تجاه خطوات وإجراءات الجيش العملانية على الأرض، والتي لا يستطيع أن يفرضها بنفسه، أو يقوم بها منفرداً، دون وجود موافقة صريحة وواضحة من القيادة السياسية للكيان، وهو ما لم يكن واضحاً وصريحاً ومباشراً خلال العمليات العسكرية في قطاع غزة.
لهذا عينت قيادة جيش العدو فريقاً خاصاً سيشرع بالتحقيق في أداء لواء النخبة "جفعاتي" بالجيش في مدينة رفح جنوب قطاع غزة، والأنظمة المتّبعة بعد أسر جندي خلال العدوان على قطاع غزة، وذلك في خطوة استباقية قبل مباشرة النائب العام استجوابه للمسؤولين العسكريين.
لكن إلى جانب المؤسسات العسكرية، فإن لجاناً قانونية وقضائية قد باشرت بتكليفٍ من الحكومة، ومن مراقب الكيان العام، إجراء تحقيقاتٍ واسعة، تشمل كل المستويات القيادية السياسية والعسكرية، للوقوف على حقيقة ما جرى في قطاع غزة، ومحاسبة المسؤولين عن أي تقصيرٍ في الأداء الميداني والسياسي، ويبدو أن العديد من الضباط والمسؤولين، الذين يشعرون بأن ملفات التحقيق ستطالهم، وأن مسؤولياتهم ستهتز، وأنهم سيتضررون نتيجة التحقيقات، فقد عجل بعضهم بتقديم استقالته، والإعلان عن اعتزاله لأنشطته السابقة، وكأنهم بذلك يستبقون النتائج، ويستعجلون الاجراءات العقابية التي ستطالهم، والتي سيكون أولها وأوجبها الإقصاء والمساءلة، وربما الحرمان من الأدوار المستقبلية السياسية والعسكرية.
في الدعوة إلى التحقيق القضائي بعد الفضائح الإعلامية العديدة، اعترافٌ إسرائيلي بأن قادة الكيان ارتكبوا أخطاءً يستحقون عليها المحاسبة والعقاب، وأنهم لم يؤدوا دورهم المنوط بهم كما ينبغي، وأنهم يتحملون المسؤولية عن الأخطاء والنتائج والمآلات السياسية والعسكرية، وفي هذا الشأن أفادت مصادر صهيونية، أنّ النائب العام الصهيوني "يهودا واينشتاين"، قرر قبول أي شكوى أو ادعاء فيما يتعلق بأنشطة الجيش وعمليته العسكرية الأخيرة "الجرف الصامد" في قطاع غزة، بالإضافة إلى أي شكوى ضد مسؤولين تبين أنهم قصروا وارتكبوا أخطاءً خلال الحرب.
سيفتح النائب الصهيوني العام البوابة واسعة للمستوطنين والجنود وعامة الشعب لتوجيه شكاوى عامة وخاصة ضد القيادات السياسية والعسكرية، لمحاسبتهم على أخطائهم، ولكنه سيجد نفسه أيضاً أمام سيلٍ من الشكاوى المضادة، التي قد يتقدم بها إسرائيليون يساريون، ومواطنون عرب، يتهمون قادة الكيان العسكريين والسياسيين بارتكاب مجازر وجرائم ضد الإنسانية بحق الشعب الفلسطيني، مستخدمين القوة المفرطة، والأسلحة المحرمة دولياً، ومعتدين عمداً على مناطق حرام، كالمدارس ومؤسسات الأمم المتحدة، فضلاً عن تعمدهم قتل الأطفال والنساء والشيوخ وعامة المدنيين.
التحقيق الذي باشرت به المؤسسات الإسرائيلية إقرارٌ رسمي، واعترافٌ ضمني، بأنهم فشلوا في تحقيق الأهداف التي وضعوها لأنفسهم، وعجزوا عن تحقيق الانتصار الحاسم، والردع المرعب، كما فشلوا في إثبات أهلية وقدرة جيشهم الرادعة، بعد أن أعلن قادته مراراً أنهم أعادوا ترميم الخلل، وتسوية العيوب التي أظهرتها العمليات السابقة، وأنهم قد تدربوا جيداً على عملياتٍ مشابهة في قطاع غزة، وأن وحداتهم المدربة والمميزة، ذات الشهرة والصيت الكبير في القتال، مثل جولاني وجيفعاتي وغيرهما، باتت قادرة على الحسم السريع، وكي وعي المقاومة بطريقةٍ مختلفة، إلا أن النتيجة كانت مخالفة، فهي أصبح الكيان الصهيوني على أعتاب فينو غراد جديدة، تفضح وتكشف وتعاقب.