سيناء أرض الفيروز والأحزان

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

   فقدت مصر كوكبة من أبطالها في سيناء بأيد مجرمة آثمة ، ولا يسعنا - نحن الفلسطينيين - إلا أن نشاطرها أحزانها ونقتسم معها الأسى والألم . فلقد أيقظ فينا هذا المصاب أوجاعا تغفو ثم تصحو ، وأبكانا الالتياع والتحسر على شهداء الوطن الأعزاء ، فما زال الحنين إليهم نارا تتلوى في صدورنا ، وما زالت دموعنا تُغَسِّلهم وتكفِّنهم ، تشيِّعهم آهاتنا حسرات عليهم وهم يصعدون إلى السماء تحف بهم ملائكة الرحمة . ولا نملك حيال مصر إلا عجزنا وهواننا ، فكم تمنينا القدرة على نصرتها ردا لجميل صنيعها وتحملها أعباء قضيتنا الفلسطينية وتداعياتها . ولا ننسى تضحياتها بأبنائها وبحياتها حين تكالبت عليها قوى الشر، فصبرت وصمدت رغم الحصار الاقتصادي الذي ضُرب عليها سنين عددا، ومع ذلك فقد أخلصت في وفائها بالواجب القومي تجاه العرب جميعا . ففلسطين لا ولن تنسى مصر عبد الناصر التي كنا  نهتف بحياتها وبحياة فلسطين كل صباح في مدارسنا ونحن تلاميذ : عاشت فلسطين عربية حرة ، وتحيا مصر حرة .  فحياة مصر حياة لفلسطين ، وحياة فلسطين معلقة بحياة مصر . ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حين قال بلسان مصر وهو من أصدق القائلين :                                                           

                أنا إنْ قدَّرَ الإلهُ مماتي       لا ترى الشرقَ يرفع الرأسَ بعدي .          

   نعم ، لقد ثبت ذلك بالأدلة الواقعية حين انكمشت مصر ، وغلَّقت الأبواب على نفسها بعضا من سنين ، فلم تقوَ أية دولة عربية أن تسد مسدها القومي ، فاستشرى التشرذم وهان العرب على أعدائهم وأصبحوا في ميزان الكرامة بلا ثمن ، وتقطعت بهم السبل للوصول إلى العزة ، بل إنهم ذلوا إذ تكالبت عليهم قوى الشر والطمع ، تعتدي عليهم وتنهش أرضهم وتسلبهم ثرواتهم ، دون أن يجرؤوا على الدفاع عن بلادهم  . فحفظ الله مصر وشعب مصر من كل شر وسوء .

   وليسمح لي القارئ أن أعيد ما قلته في مقالة سابقة : أن فلسطين وأهل قطاع غزة ليس كلهم حماس ، وليس لهم جذور تتصل بالإخوان المسلمين ، فنتمنى على مصر السيسي ألا تأخذ أهل قطاع غزة بجريرة أي حزب أو فصيل مهما كانت درجة إساءته لمصر وللمصريين . ونتمنى على مصر السيسي حفظها الله أن تكفَّ الأقلام ، وتنهى الإعلام الذي يتربص ويترقب حدوث أي عرس ليرقص فيه ويغني ما شاء له أن يغني من المواويل العدائية ، وأن تُسكت الألسنة عن الكلام التحريضي ضد الفلسطينيين وبخاصة أهل قطاع غزة ، فالمتهم برئ ما لم تثبت إدانته .

   عزيزتنا مصر : ليس من العقل ولا من الدين ولا من الوطنية ولا من الناحية الأخلاقية ولا حتى من الجانب الإنساني أن تمتد يد فلسطينية – حماس أو غير حماس – لتقتل أو تشارك في قتل أحد من الأخوة المصريين الذين لهم وللجيش المصري رصيد عظيم من المواقف المشرفة والبطولات المجيدة . فحماس – وأنا لست حمساويا – نفت واستنكرت وقدمت التعازي الحارة لمصر حكومة وشعبا ، فالجرح واحد ، والخسارة فادحة لجميعنا . فلماذا هذا التحريض على غزة ؟ ولماذا هذا العقاب الجماعي بإغلاق معبر رفح وتشديد الحصار الخانق على أهل غزة ؟ ولماذا هذا التهديد والوعيد بضرب غزة وأهلها الذين يحبون مصر ؟ ، ولماذا المزيد من صناعة البغضاء والعداوة بين الشعبين الشقيقين في وسائل الإعلام . فالسلطة الفلسطينية والشعب الفلسطيني ممثلا بالرئيس عباس ، وكذلك قادة حماس بغزة أعلنوا جميعا عن شديد حزنهم وعظيم أساهم على فقدان مصر كوكبة من الأبطال الأطهار على أرض سيناء ، وكلهم أعلن براءته من هذه الفعلة الشنعاء . ولكن هذا في رأينا لا يكفي ، فنقترح على قيادة حماس بغزة أن تُشكِّل وفدا رفيع المستوى من داخل قطاع غزة وليس من خارجه برئاسة الرئيس عباس أو من ينيبه عنه بطلب التوجه إلى مصر لتقديم خالص العزاء للشعب المصري والحكومة المصرية والإعلام المصري ، وتفنيد الادعاءات باتهامها بارتكاب أو المشاركة في ارتكاب هذه الجرائم النكراء بحق مصر ، وإعلان براءتها من دم الشهداء المصريين الذين طالتهم أيدي الغدر الجبانة في سيناء منذ يوميْن ، ومن دم الشهداء السابقين الذين اغتالتهم الأيدي النجسة وهم صائمون لله سبحانه منذ عاميْن .

   وليس هذا فقط ، بل على قيادات الفصائل الفلسطينية الفاعلة في غزة وعلى رأسها حماس أن تقدم لمصر حُسن النوايا الصادقة بالتعاون والتنسيق الأمني مع قوات الأمن المصرية لحراسة وحماية الشريط الحدودي مع مصر من أي خطر مدسوس عليها . وأن تُشكَّل لذلك لجنة عليا من الطرفين تقوم على توزيع الأدوار وتوفير وسائط الاتصال وبرمجة الأعمال ومتابعة تنفيذها ، بهذا نكون قد أمسكنا بالمقص نقطع به ألسنة المتقولين المحرضين الذين همهم الأكبر الإيقاع بين الشعبين الشقيقين ، وبذلك تتكشف الحقائق ويرتفع الغطاء عن الاتهامات المتسرعة من دون حساب ، لأنه من غير المعقول أن يُتهم قطاع غزة كلما حدث حادث ويؤخَذ أهله جميعهم بجريرة حماس أو أي فصيل مهما كانت أيديولوجيته ومهما صغُر فعله ، ونحن برءاء من فعائل الآخرين ، وممن يرفعون شعار رابعة الذي لا يهمنا ولا يفيدنا في شيء ، ولكنه يثير علينا رياح الغضب المصري وسخطه علينا .  

   ولكن يبقى السؤال الكبير : أليس يا مصر من وجود طرف آخر يمد يده في الخفاء يضرب ويلبد ، أو يُجنِّد مَن يضرب ، ويكون هو أول مَن يلقي الاتهامات ويلصقها بآخرين ويُصَدَّق ؟! ، وهل من الممكن أن تكون هذه اليد الآثمة التي تزرع وتسقي شجرة العداوة بين الشعبين الشقيقين هي يد إسرائيلية صهيونية حتى يبقى قطاع غزة ومَن فيه موصوما بـ ( الإرهاب ! ) ، وحتى تظل جذوة الأحقاد والعداوات مشتعلة تأكل أطرافا من الجسد العربي . وما يُلقَّاها إلا الغزيون الذين يتمنون لمصر وشعبها العزة والسلامة ، وسلام على الشهداء الأبرار في سيناء أرض الفيروز والأحزان ، وفي غزة وفي القدس الشريف . فالجرح يا مصر واحد والوطن واحد والدمع بجري في مصب واحد ، وكلنا يغني على قيثارة الألم أغنية واحدة .***