في ذكرى رجل لن تغيب ذكراه

بقلم: أكرم أبو عمرو

لم أتشرف بلقاء أبي عمار والتقاط صورة تذكارية معه كما فعل الكثيرين من أبناء شعبنا ، ولكن تشرفت بمصافحته لأكثر من مرة وفي أكثر من مكان ومناسبة ،لا لشيء إلا لان هذا الرجل كان دائما يلقي بنفسه في أحضان شعبه ، في كل مناسبة ، بيوت العزاء ، الأعياد ، المناسبات الوطنية ، والفعاليات المختلفة ،في مساجد غزة القديمة والتاريخية ، كنت ترى أبا عمار حاضرا دائما ، ابدأ مقالتي بهذه الكلمات والذكرى العاشرة لاستشهاد القائد الرمز ياسر عرفات تهل علينا ، لتؤكد أن شعبنا يحتضن أبا عمار وان كان جسده غائبا .

كنت صغيرا نسبيا عندما لأول مرة سمعت عن اسم هذا القائد الذي بدأ نجمه يسطع في فترة خيم الظلام الدامس على امتنا ، في أعقاب هزيمة قاسية ما زلنا نكابد أثارها ، حيث استكمل الأعداء احتلال واغتصاب فلسطين التي كنا نتغنى في حينها بالاستعداد لتحريرها وعودة أهلها المشردين ، على أيدي جيوش جرارة تقضي على كل غاصب ومحتل ، وإذا بهذه الجيوش تتحول إلى وهم عاشه شعبنا ردها من الزمن ، جعلت شعبنا تائها وحيدا يلملم جراحة الغائرة ، حيث بدأ جنود الاحتلال يعيثون في الأرض فسادا ، في هذا الزمن بدأ رجل اسمه ياسر عرفات حاملا مصباحا لينير الطريق طريق الثورة والتحرير .

نعم لقد كان أبو عمار مدرسة في الثورة ، مدرسة في الوطنية ، مدرسة في الوحدة والتوافق ، في رحلته الطويلة إلى فلسطين ، خطبا كثيرة ألقاها، وأحاديث كثيرة أدلى يها إلى مختلف وسائل الإعلام المختلفة، لم يتفوه بكلمة نابية وجارحة لأي فرد آو فصيل أو حزب ، بل كان خطابه وحدويا ، كان رجل الملمات كما نقول بلهجتنا الدارجة ، كان صديقا وأخا للجميع ، وصف القائد جورج حبش بحكيم الثورة في الوقت الذي كان التنافس والاختلاف بين الجبهة الشعبية وحركة فتح في أوجه ، عمل جاهدا للإفراج عن الشيخ احمد ياسين من معتقلات الاحتلال ، وذهب بسرعة للاطمئنان علية في المستشفيات الأردنية ، وكان على رأس مستقبليه عند عودته إلى ارض الوطن ، وإذا غضب تكون غضبة الأب على أبنائه .

تحل علينا الذكرى العاشرة لاستشهاده ، ونحن أحوج فيه إلى روح أبي عمار ، إلى نهج أبي عمار ، إلى ثورة أبي عمار ، إلى إستراتيجية أبي عمار ، عندما تم التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ غزة أريحا أولا ، عام 1993ثارت الدنيا ولم تقعد ، واصفين اياه بأبشع الأوصاف ، ولم يدركوا البعد الاستراتيجي والتاريخي لهذا التوقيع ، لم يكن تنازلا ، ولم يكن تفريطا ، بل كان قراءة معمقة للواقع في ذلك الوقت ، حيث من المستحيل تقريبا تحرير كامل التراب الوطني الفلسطيني مرة واحدة لأسباب يعرفها القاصي والداني بعيدا عن الشعارات الهوجاء والخطب الرنانة التي يختفي صداها مجرد انتهاء صاحبها من إلقائها ، فكان لا بد من خطوة تقربنا من التحرير الكامل ، وكانت غزة أريحا أولا ، لم يأتي هذا الاختيار لأبي عمار عبثا فهو يعرف ما تعنيه كل من غزة وأريحا بالنسبة لفلسطين ، فهما بوابات الوطن ، هما مداخل ومخارج الوطن ، هما رأس الجسر إلى الوطن ، فهما البدايات ومنهما الانطلاق ، إلى الباقي من الوطن ، فبغض النظر عما حدث بعدها بسبب تعنت ومماطلة وتسويف الاحتلال في كل الاتفاقات التي عقدت مع الفلسطينيين وهذا هو ديدن عدونا ، إلا أن مثل هذه الخطوات تبقي مهمة وأساسية عند قيام أي دولة .

تحل علينا ذكرى الرجل الذي لن تغيب ذكراه أبدا ، وحالنا الفلسطيني لا يحسد عليه ، نقولها بصراحة تشرذم ، وتفرق ، وانقسامات ، وفوضى ، وتكالب القوى وجميعها مع الأسف من داخلنا وبأيدينا ، فقبل أيام كان الاستعداد لاستقبال هذه الذكرى بتفجيرات لا ندرى أهدافها ومغزاها ومرماها إلا محاولات لاستمرار التفرق والانقسام ، واستمرار إعطاء الذرائع لأعدائنا وليس عدونا لان أعدائنا كثر ، تأتي هذه التفجيرات في الوقت الذي أصبحت فيه الكثير من الدول تتململ رفضا للسياسات والممارسات الإسرائيلية العدوانية تجاه شعبنا ، حيث نسمع عن اعتزام العديد من الدول الأوروبية للاعتراف بدولة فلسطين إذا استمرت إسرائيل في مماطلتها وسياستها العدوانية ضد شعبنا ، تأتي هذه التفجيرات في الوقت الذي يحاول البعض للالتئام الصف عبر حكومة تسير سير السلحفاء ، ولا يخفى عن احد السبب الحقيقي وراء بطء سير هذه الحكومة ، تأتي هذه التفجيرات في محاولة طمس عهد من الثورة والكفاح والتضحيات .

ما أحوجنا إلى زمانك يا أبو عمار ، عشر سنوات عجاف ، حصار ، حروب ، شهداء ، دمار وخراب ، تزايد فقر وبطالة ، وتراجع قضية ، اعتداءات مستمرة على القدس والأقصى الذي كان أبو عمار يردد سيأتي يوم يرفع فيه شبل من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس ، وفلسطين أصبحت اثنتان ، لقد انحرفت البوصلة .

نعم لينطلق شعبنا لإحياء هذه الذكرى لاستلهام روحه وثورته وإرادته وحبه لفلسطين وأمله الدائم في العودة ، لنحيي ذكرى هذا الرجل لاستلهام الدروس المستفادة من حياته ، ومواصلة الطريق طريق الوحدة ، طريق الثورة ، طريق التحرير والعودة ، رحمك الله يا أبا عمار وسيبقى شعبك حيا مهما كانت الظروف .