جولة في عقل الفكر المتطرف

بقلم: أحمد إبراهيم الحاج

تعريف التطرف باختصار هو الهروب الى الأمام من واقع سيء.
حينما فكرت بالقيام بهذه الجولة في عقل الفكر المتطرف، تخيلت نفسي بأنني مكبل في زنزانة مغلقة، وشعرت بضيق في النفس وضغط كبير على القفص الصدري لضيق المكان والمساحة المتاحة للحركة في داخل هذا العقل المتآكل والمتهالك والمتناهي في الصغر، وراودتني نفسي أن أتراجع عن القيام بهذه الجولة، ولكن الواجب الإنساني أولاً والديني ثانياً دفعاني الى الثبات على القرار وخوض المغامرة.
تشير الدراسات النفسية التحليلية والمنهجية التاريخية لسيرة أصحاب هذا الفكر أنهم ثلاث فئات:
أن نسبة كبيرة منهم كانوا في مسيرة حياتهم من الفاشلين على المستوىات الإجتماعية والعلمية والثقافية والعملية، ولكي يهربوا من فشلهم عمدوا الى التطرف الفكري واستقطبوا من هم على شاكلتهم من البسطاء من العامة ليعوضوا النقص الإجتماعي والنبذ الأسري، وتطرفوا بالفكر الخشبي ليعوضوا النقص العلمي والشح الثقافي الذي يعانون منه، واستحدثوا لأنفسهم المناصب داخل هذا التيار المتطرف ليعوضوا النقص العملي. فولد الشعور بالفشل في نفوسهم الحقد تجاه كل نجاح. وسلكوا طريق العنف الدموي للإنتقام من كل ناجح.
وأن نسبة متوسطة منهم كانوا عبيداً للرغبات والشهوات الدنيوية التي تغيب العقل والضمير الإنساني وتنحيه عن قيادة التصرفات وحركة الجسد، وتجعل منه إمعة تقوده رغباته وشهواته فيستحل بها الحرام ويحرم بها الحلال. ويطلب من الناس أن يعيشوا في هوامش المحرمات الضيقة بينما يعيش هو في رحاب الحلال الواسعة وفي أرض البوار من المحرمات، لذلك تجده يلهث وراء شهواته وغرائزه بقلب يعمره الحسد والحقد والكره والعزل والإستقصاء للآخر. فيتكون حول قلبه غلاف أصم يخلو من المسامات والنوافذ والأبواب، يمنع الإتصال والتواصل مع الخارج، ويرفض التعايش مع الآخر الا مع نفسه ومن سايرها، ويعيش على مقدرات ومعطيات الداخل من الحقد والكره والحسد والشعور بالفشل والتجويف الثقافي والعقم الفكري، ونظراً لعزل هذا الفكر وتغليفه دون ملامسته للواقع واستنشاقه لهواء الحرية، يتعفن هذا الفكر ويصبح (كالبيض أو كالسمك) الفاسد. لا ينفث الا سماً وكرهاً وتدميراَ.
وأن نسبة ضئيلة منهم كانوا أضداداً مناهضين لهذا الفكر المتطرف فأصابهم الإرتداد العقلي نظراً للواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة، وجرفهم تيار التطرف السائد مكرهين، لكي يركبوا الموجة السائدة ويستمروا على طوفانهم على السطح، أولئك هم المذبذبون (إنهم لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء)، يسيرون مع الموجة العاتية التي تجتاح المجتمع، بغض النظرعن بوصلتها واتجاهاتها، وخير وصف لهم بأنهم هم المنافقون كما جاء وصفهم بالقرآن الكريم في سورة البقرة.
يتنافر المتطرف مع فطرته الخلقية التي خلقه الله عليها مصداقاً لقوله تعالى " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" ويصبح المتطرف عدواً للتعارف والتعايش والإنفتاح، وينفصل عن الواقع ويعيش في دوامة الفعل والفعل المضاد، ويخلق لنفسه العداوات على حساب الصداقات، دون حساب لموازين القوى بينه وبين من يعتبرهم الأعداء وكأنه يسعى للإنتحار وإلى الهروب من الحياة التي قدسها الله لأنها رسالة، وهي واجب على الإنسان لإعمار الأرض لا لتخريبها والعبث فيها، ومن ينظر للحياة نظرة سوداء هو عدو للفطرة الخلقية وللخالق، ومن يهلك نفسه وغيره دون نتائج وأهداف سامية في إطار مشروع تعود بالنصر والخير على الصالح العام فهو في عداد المنتحرين.
الشخص المتطرف لا يمكن وصفه بالغباء، إنه شخص ذكي لكنه يستغل ذكاءه في الإتجاه السالب لقلة حيلته وعجزه عن المقاومة لظروف الحياة ولسرعة وصوله بشتى الطرق بغض النظر عن مشروعيتها. ليكون قوة شد واحتكاك عكسي للإتجاه العام الذي ينشده المجتمع الإنساني. ويعمل على تحويل الإتجاه العام وحرفه الى إتجاهه الخاص بأساليب مواربة وملتفة على الشرائع السماوية والقوانين المدنية ومعادلات القوة القائمة في المجتمع ولكن كيف:
يدرس المتطرف البيئة الفكرية والعقدية السائدة والمُستقطبة في المجتمع، لتلمس الثغرات التي سينفذ بها الى الفكر السائد لاستقطابه وتطويعه والسيطرة من خلاله على المجتمع. كما أنه يلجأُ الى الموروثات المسلم بها من العادات والتقاليد التي يجب التخلص منها لأنها تشكل قيوداً على التحرر والإنعتاق الفكري، ليزيد من قوة ضغطها وتسلطها على رقاب الناس ليجعل منها أدوات للتنفيذ والوصول الى السلطة والسيطرة.
وإن من أكثر أنواع التطرف الفكري شيوعاً في هذه الأيام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية هو التطرف العقدي الديني الذي ساد المجتمعات الآوروبية قديماً وّأذاقها الويلات والمصائب وكلفها ملايين الضحايا الى أن استفاقت آوربا بعد الصدمات العنيفة، ووعت على واقعها المؤلم بفعل الثورة الفكرية والثقافية التي قادها نخب من الفلاسفة والمفكرين لتوعية الناس للخروج من هذا الواقع المؤلم، وتلتها إنتفاضة شعبية على الواقع المرير، فوضعت الشعوب الآوروبية حداً لهذا التطرف والغلو العقدي والفكري المتصلب، فانعتق الفكر لينتج الثورة العلمية والصناعية.والذي أدى الى النهضة الشاملة ونبذ التطرف الفكري العقدي المتسلط على العقل البشري.
إن البيئة الفكرية السائدة اليوم في مجتمعاتنا العربية تشكل أرضاً خصبة لهذا التطرف العقدي، ونلحظ نشاطاً محموماً للمتطرفين العقائديين، ففي غياب الوعي عن الأمة والتجويف الثقافي والتوعوي ينشط الإستقطاب للفكر العقدي المتطرف، الذي يجد الروافع لدعمه وغلوه في مجتمعاتنا، من تفش للبطالة والفقر والجوع وفشل للشباب في إيجاد فرص للعمل، وانعدام للتنمية وضعف في مناهج التعليم وكل ذلك أدى الى خلل في التربية والى خصوبة للإستقطاب المتطرف.
إن من صفات الشخص المتطرف أنه أناني بطبعه، يفضل مصلحته الخاصة على المصلحة العامة، متسلط ودكتاتور متفرد، يعيش في سياج داخل أسوارعالية من القوانين الضاغطة للحريات على غيره من الناس، بينما يبدو في ظاهره ملتزماً بتلك القوانين المبتدعة من النصوص الشرعية في غير مواضعها ومناسباتها وفي باطنه يعيش في حل منها. يحب الحروب والنيران، يلجأ الى العلاج مبتدئاً بالكي بالنار، يجيز القتل والدمار دون أهداف محددة، لا يعترف بالمجاز والتحليل والقياس، يكره أن يرى الإبتسامة على وجوه الناس، بإختصار إنه عدو للحياة وغير مستوعب لرسالة الإنسان على هذه البسيطة.
لا يكاد التطرف أن يُرى بالعين المجردة في المجتمعات الناهضة الواعية، ولكنه حتماً ينمو ويتغلغل ويترعرع ويكبر حثيثاً كالمارد في المجتمعات المتخلفة، وهذا ما يشهد به الواقع اليوم.

بقلم / أحمد ابراهيم الحاج
9/11/2014 م