يبدو أن الطواويس في بلادي كثيرة ومتعددة الأحجام والأطوال . ففي قطاع غزة والضفة الغربية وديار اللجوء والشتات طواويس تتيه معجبة بنفسها وبطول ريشها وبألوانها الزاهية وبأعرافها الحمراء ، فتُفتَـتَن بهذا البهاء الذي يجعلها تزهو بكبرياء زائفة ، فتعمى أبصارها وتبهت بصائرها ، فلا ترى إلا جمالها . وتحسب أن لامثيل لها ، خلقها الله سبحانه ولم يخلق في الكون سواها ، أو أن كل الخَلق دونها ، فأين منها قادة الحروب العالمية !. لهذا فقد ركبها هوس العظمة ، واستشرى فيها الغرور الذي يُزَيِّن لها أنها قادرة ومقتدرة على تحقيق الأهداف الوطنية في حرب ضروس غير متكافئة . ولكن الذي ينقص هذه الطواويس افتقادها القدرة على مراجعة الذات وإعادة تقييم الحسابات لمعرفة الربح والخسارة قبل التحرش بالعدو من جديد لاستحداث عدوان جديد يجلب لنا الفناء والدمار من جديد ، أليست الحروب كالتجارة ، قابلة للربح والخسارة، وأن عروض هذه التجارة هي الأرواح التي يتخطفها منجل عزرائيل عليه السلام ؟. فما دامت فواتير الحروب التي يدفعها الشعب الأعزل مرتفعة الأثمان ؛ إذن من حق هذا الشعب على حُكَّامه أن يراعوا حضور مصلحته الوطنية العليا على الخريطة السياسية في أي معادلة تُخطط للحرب أو السلم ، ويُغلِّبوها على المصلحة الحزبية الضيقة ، وأن تُعطى سلامة المواطنين وممتلكاتهم الأولوية في التخطيط للحرب والسلام . ومن واجب الحُكَّام والجنرالات واللوردات والنبلاء أن يرفقوا بمواطنيهم وأن يرحموهم من معاناة جديدة ، وأن يحرروهم من رعب يأسرهم ولا يفارقهم صباح مساء ، يخشون حربا جديدة تسعى إليهم ، وأن يستمعوا لنبض قلوبهم وأن يحسوا بهم ويستجيبوا لرغباتهم ، وأن يولوهم الاهتمام بحيثيات حياتهم المعيشية .
إن العامل الرئيس في حدوث الكوارث والنكبات هو انتفاخ الطواويس بالكِبْر حين تختال بخيلائها فلا ترى بندقية الصياد المصوبة تجاهها ، أو أنها تراه وترى بندقيته ولكنها تكابر رغم افتقارها إلى القوة وإلى أدوات القوة التي تُمَكِّنها من مجابهة العدو جوا وبحرا وعلى الأرض . ولا تريد أن تعترف بضعفها المادي وضعف إمكانياتها القتالية مقارنة بما يمتلكه العدو من ترسانة مسلحة وإمكانيات ضخمة وممولين بالمال والسلاح والذخائر.
المجابهة الحقيقية التي على كل طاووس وطُوَيْس أن يجريها الآن هي مجابهة النفس ومحاكمتها ، لأنها أمارة بالسوء ، تنفخ في الصدور بالغرور ، تورِّط صاحبها حين تزيِّن له أشياء ليست فيه ، وهي توأم الشيطان حين يوسوسان له أن بلاده دولة عظمى ، ويوهمانه أنه جنرال تخرَّج في أكاديميته العسكرية رومل ومونتجمري وديجول وخالد بن الوليد وابن الجرَّاح وابن العاص ، وأن تحت إمرته جيشا جرارا بطائراته المقاتلة وببوارجه الحربية وبأرتال دباباته وبقوافل من مركباته العسكرية ذات المدافع الميدانية ، وأنه سينتصر على أعدائه لا محالة بما لديه من إمكانيات هائلة من الموارد البشرية والاقتصادية واتساع مساحة بلاده وبقدرته على نقل ميدان الحرب خارج مدنه وقراه بعيدا عن المدنيين . وإنه ليكثر من ترديد ذلك متجاهلا قوة عدوه ، متناسيا ضعف قدراته ، لدرجة أنه يصدِّق نفسه حين يصدِّقه بعض الأصدقاء ويصفقون له إعجابا به أو استدراجا له حتى يقع في منطقة الخطر ، فإذا انطلقت بندقية الصياد تخندقت الجنرالات واختفت بعيدا عن مرمى الخطر، ولا يُلقاها إلا الأبطال المجاهدون من رجال المقاومة الباسلة الذين يسطرون بدمائهم الزكية أروع حكايات البطولة والفداء، ولا يكتوي بنارها إلا المدنيون اللائذون ببيوتهم المكشوفة للطائرات الحربية ترميهم بصواريخها المحمومة.
نتمنى على قادتنا وزعمائنا أن يتجردوا من حب العظمة ، وأن يخلعوا عن أنفسهم الثياب الفضفاضة ، وأن يعيشوا الواقع بما فيه من مرارة ، وأن يتعرفوا على أحجامهم ويزنوا قوتهم ومنطلقات قدراتهم ، ولا داعي لتهديد الصياد وتحديه واستدراجه للمنازلة من جديد على الأرض الفلسطينية ذات المساحة الضيقة المكتظة بالسكان والطافحة بالنساء والأطفال ، فما زالت الدموع تجري سخينة ، وما زالت الأحزان لم تفارق الساحات ، وما زالت الآهات تتصاعد إلى السماء ، وما زالت صور العدوان لم تغادر المخيَّلات ، وما زال الناس يلملمون أشلاءهم ويتفقدون جراحهم ، يبكون الأحبة على الأطلال ، وقد يطول زمن الانتظار وترقب البدء بإعادة الإعمار، فيطول زمن المعاناة والمكابدة ، ويتساءلون : متى يصل كيس الإسمنت ؟. متى تمتد يد شفوقة تمسح دمع الحزانى المكلومين ؟. متى يأتي مَن بيده مفتاح بوابة معبر رفح لتحريرنا من قيد الحصار ؟. مَن يأتينا بقبس من كهرباء حتى نرى تجاعيد وجوهنا في المرايا ؟. مَن يلملم شملنا ويعيد لنا وحدتنا الوطنية ؟! . أسئلة كثيرة تتوالد مع ميلاد كل صباح ، ولكن بلا جواب .
إن أشنع الطواويس الفلسطينية منظرا هي تلك التي تختال في بلاد أخرى خارج الوطن ، تعيش في نعيم مقيم وبذخ مستديم ، تتطاوس كيفما تشاء وهي بعيدة عن بندقية الصياد ، فتراها لا تفتأ تؤجج صدر الصياد ، وتحشو بندقيته برصاص الحقد والانتقام ، وتتوعده وتدعو للتحرش به لتجبره على قبول التحدي وتجره إلى حلبة الصراع الدموي ، وإن كثيرا من هذه الطواويس يذكون نار الحرب بالوقود الآدمي عن بُعد ، فتحل الكارثة بالشعب ، أما هم فلا تمسهم النار ولا تحرق طرفا من أذيال ثيابهم ، ويبدأ العدُّ من جديد : آلاف الشهداء وآلاف الجرحى وآلاف البيوت المهدَّمة فوق رءوس ساكنيها ، وتبدأ مأساة جديدة ، ويبدأ الإعداد لمؤتمر الإعمار الكاذب من جديد ، (ويا عين صبي دمع !). ويا ويلنا إن لم يجد الطواويس حربا مع الأعداء التاريخيين ، فإنهم يخلقون لهم عدوا من أهل بيتهم يحاربونه ، فتزيد أوجاع الناس بالنزاعات اليومية وترسيخ الانقسام بين الفلسطينيين في الداخل وفي أرض اللجوء والشتات ، وإني لا ألقي اللائمة على طائفة دون الأخرى ، بل على الجميع لا أستثني منهم أحدا .
كلمة أخيرة : إذا كنا اليوم نفتقد القدرة على مقاومة العدو وتحرير الوطن الفلسطيني السليب ، فلا نركع ولا نسلم للعدو بما ينهب من أرض فلسطين، ولا نعترف له بكيانه ودولته الصهيونية ، ولا نرضى بالـدَّنـيَّـة والخضوع من أجل حفنة دولارات ، بل يجب مقاطعته ووقف المفاوضات العبثية معه ، ولنحتفظ بالبندقية الفلسطينية إلى حين ، لا نفرِّط فيها ، بل نودعها ونودع حقوقنا الفلسطينية أمانة في أعناق الأجيال القادمة ، وأولها حق العودة إلى فلسطين الحبيبة ، وسيأتي حتما - في الزمن القادم - جيل أقوى منا إيمانا بالله ، وأكثر منا قدرة وشجاعة ، وأعظم منا نخوة ووطنية ، وأشد منا حبا لفلسطين التي لا بديل عنها بسواها ، هذه حتمية التاريخ . وما النصر إلا من عند الله ، ينصر الله من يشاء من المؤمنين . فهل نحن مؤمنون حقا حتى نستحق رحمة الله ونصرته ؟! أكاد أشك فيما ندَّعيه بأنا مؤمنون ، وأكاد أجزم بأن استدراك الله يشملنا – نحن مسلمي هذا العصر - بأمره سبحانه : "... ولكن قولوا أسلمنا ولمَّا يدخل الإيمان في قلوبكم ." (14 الحجرات). فمهلا يا قوم لا تطمعوا في نصر الله حتى تكونوا – مسلمين و مسيحيين - مؤمنين حقا وصدقا بالله وبحقنا في بلادنا فلسطين العربية ، وبحتمية تحريرها إن شاء الله .***