بسم الله الرحمن الرحيم
في عام 1944 تم توقيع معاهدة بريتون وودز وقد حضر المؤتمر ممثلون لأربع وأربعين دولة. وقد وضعوا الخطط من أجل استقرار النظام العالمي المالي وتشجيع إنماء التجارة بعد الحرب العالمية الثانية , حيث ساد تلك اللحظة فوضى سياسية واقتصادية , وقد إشترطت الولايات المتحدة الامريكية آنذاك أن يكون الدولار هو العملة الوحيدة القابلة للاستبدال بالذهب , حيث أُطلق على هذا النظام بنظام صرف الذهب , وكانت هذه بداية صندوق النقد الدولي , ومن هنا يتبين لنا بداية أحادية الهيمنة الاقتصادية على العالم , لكن لم يساعد ذلك الولايات المتحدة الامريكية المتفردة بالقيمة الذهبية من الوقوع في براثن الازمات الاقتصادية المتتالية , وأهمها العجز في ميزانياتها , حيث زاد العجز في ميزان مدفوعات الولايات المتحدة وتخفيض احتياطها الى 1.1 بليون دولار ,مما دفع بالرئيس الأمريكي نيكسون في عام 1971 إلى إتخاذ قرار بوقف تحويل الدولار إلى ذهب , وتم إسقاط معاهدة بريتون وودز والتي كانت تربط الدولار بالذهب .
بعد هذه المرحلة وبسبب الهيمنة الاقتصادية الامريكية تم الاستسلام للأمر الواقع وخشية تأثر الدول الاخرى اقتصاديا تمت الموافقة على أن يكون الدولار هو الغطاء الوحيد لعملات الدول الصغرى والكبرى , وبحكم القوي على الضعيف بدأنا بمرحلة جديدة من العلاقات المالية الدولية وظهر مفهوم نظام التعويم المدار , هنا تم اتباع سياسة مالية جديدة من خلال تحديد سعر الصرف وذلك بتفاعل الطلب والعرض مع تدخل ملحوظ للدولة من خلال البنك المركزي وتفاعل قوى البيع والشراء للتأثير على سعر الصرف , وبالرغم من ذلك فإن الكثير من الدول لا تسمح لنظام التعويم أن يكون هو المحرك الوحيد , ولو تُرك ذلك لأدى الى أزمات اقتصادية , وهذا ما حصل لدول جنوب شرق أسيا عندما عصفت بهم الازمة الاقتصادية عام 1997 , حيث أُجبرت الحكومة التايلندية على تعويم البات بسبب الافتقاد إلى العملات الأجنبية لدعم معدل صرفه الثابت.
ماذا يعني إحلال العملة الذهبية الجديدة وأثارها على اقتصاديات العالم ؟؟؟؟ قبل الاجابة على هذا السؤال لا بد لنا من ذكر هذه الواقعة التاريخية ليدرك القارئ تحايل الغرب وسذاجة الكثير من العلماء الذين ينظرون للعملات الورقية على أنها أنسب طريقة للتعاملات والتبادلات التجارية .
إن عملية الاختلاس التي قامت بها الولايات المتحدة الامريكية كانت واضحة حيث أنها أصدرت قانون يحرم اقتناء الذهب , وأن من يقتنيه يغارم ب 10 الاف دولار وكان حينئذ سعر الاونصة هو 20 دولار , وبدأ المجتمع بأسره يضع ذهبه في البنوك ويستبدلها بأوراق مالية جديدة , وبعدما نفذ الذهب فعلياً من الاسواق تم تخفيض قيمة الدولار الامريكي بمقدار 41% عام 1934 وتم إلغاء قانون وعقوبة إقتناء الذهب , فبدأ الناس يذهبون الى البنوك لأستبدال العملات الورقية بالذهب , ولكن كان سعر الاونصة آنذاك هو 35 دولار أي بزيادة مقدارها 15 دولار , وبفائدة مخفضة الى 41% !!!! سرقة واختلاس واضحان من الدول الرأسمالية التي عبدت المال , وهذه الاجراءات مرت على كافة دول اوروبا في تلك اللحظة وانخفضت الفائدة على كافة العملات الاوروبية حتى وصل بعضها الى 57% , والأن يتم ذلك بحجج واهية ومن أهمها محاربة التضخم في حال الزيادة في الفائدة , أو محاربة الركود في حال تخفيض الفائدة ,وهذه العملية تحصل الان ليس على مستوى دولة واحدة بل على مستوى جميع الدول العالمية , ويتم تدريسها في الجامعات على أنها أدوات السياسة المالية المعالجة للأزمات المالية !!!
لقد دعا مدير البنك الدولي روبرت زوليك في صحيفة "فايننشال تايمز" إلى اتفاقية بريتون وودز جديدة وأكد أنّ النظام النقدي الجديد يجب أن يدرس استخدام الذهب كنقطة مرجعية دولية لتوقعات الأسواق حول التضخم والانكماش وقيمة العملات.
هوغو تشافيز يفهم حقيقة صندوق النقد الدولي ويحاربه ويرفض الانضمام الى عضويته وفي المقابل تجد بعض الدول الاسلامية تتهافت للانضمام لهذا الصندوق الذي اضحى محركاً سياسيا في الدرجة الاولى لكافة دول الاعضاء , قبل ان يكون محركاً اساسيا ً لمحاربة الفقر وزيادة النمو , مع العلم أن دول العالم الثالث كما كانت قبل 70 عام فهي الى الان في عداد دول العالم الثالث , إلا البعض القليل ممن كانت مصلحة الغرب مرتبطة في نموهم الاقتصادي .
إن صندوق النقد الدولي الذي تم إنشائه بناء على معاهدة بريتون وودز يحرم على الدول الاعضاء ربط عملاتهم بالذهب وقد تسائل الكثيرون عن أسباب تحريم ذلك ومنهم عضو الكونجريس الامريكي رون بول عام 2002 والذي الى الان لم يتلقى أي اجابة !!!! وهذا قانون واضح يحرم على أعضاء الصندوق التفرد بعملة الذهب , ولن تستطيع أي دولة اصدار عملتها الذهبية إلا إذا كانت خارجة عن سيطرت الصندوق والأمم المتحدة والمجتمع الدولي ككل .
رئيس وزراء ماليزيا السابق الدكتور مهاتير محمد والذي طالب بإعادة استعمال الدينار الذهبي بدل الدولار الامريكي القائم على الاستعباد والاحتيال وسرقة ثروات البلاد الاسلامية , والكثير أيضا من الأحزاب والحركات الاسلامية التي أيقنت واقع الاستغلال الغربي من خلال النظام الرأسمالي العالمي وطالب بإصدار العملة الاسلامية الذهبية للتخلص من براثن الازمات الاقتصادية والتبعية الغربية العمياء , والسبب ذاته هو الذي دعا الدولة الاسلامية إلى اتباع قاعدة الذهب وإصدار العملة الاسلامية المكونة من الدينار الذهبي والدرهم الفضي والفلس النحاسي .
نعود الى السؤال ماذا يعني إحلال العملة الذهبية الجديدة وأثارها على اقتصاديات العالم ؟؟؟؟
إن ذلك يعني وبدون أدنى شك , الى بداية سقوط النظام المالي العالمي , لأن القيمة الذهبية للعملة ليس كالقيمة الورقية , وسرعان ما سيُكشف زيف العملات الورقية ونصبها وإحتيالها , وهذا مرتبط بنجاح العملة الذهبية وتداولها , والمجتمع الدولي يعيش كل عام أزمة اقتصادية جديدة , والواقع يقول أن هذا النظام القائم أصبح يعطى جرعات تقوية ولفترة زمنية معينة سرعان ما يعود الى الازمات المتتالية , كالشيخ المسن الذي بلغ من العمر عتيا , ومعظم هذه الازمات مرتبطة بالتضخم ومشاكله والتي بدأت بالظهور بعد سقوط معاهدة بريون وودز , أو حتى الربا وأثاره كأزمة الرهن العقاري التي عصفت بالولايات المتحدة عام 2007 ومن ثم زحفت الى دول العالم .
إن الحل الوحيد للخروج من هذه الازمات هو البحث عن نظام عالمي جديد , وخاصة أن العالم كله أصبح مرتبط ارتباط مباشر بالدولار , فلو انخفضت قيمة الدولار الامريكي فهذا يعني أن الدول المرتبطة قيمتها بالدولار أيضا سوف تتأثر سلباً سواء بانخفاض قيمة السلع المصدرة للخارج وخاصة دول النفط العربي , وتتأثر أيضا كافة الاستثمارات الخارجية المرتبطة بالدولار , ناهيك على ذلك تأثر سعر صرف العملة الوطنية بالعملات الاجنبية , وما تملكه من أرصدة بالدولار , وفي المقابل أرباح الطرف الاول هي فوائد متزايدة , ألا يعتبر هذا كله استعباد للدول ونحن في قرن الانفتاح والنمو والتطور !!! أين رجال الاقتصاد في عالمنا الاسلامي ؟؟؟ أم نحن كالببغاء نردد ما يقوله الغرب دون التفكير بمجرد التحرر من العبودية والتبعية الغربية , أغرقونا بنظريات النمو والتبادلات التجارية , والتي للأسف تدرس في الجامعات على أنها هي الخلاص من الفقر , والمؤسف أننا منذ تأسيس صندوق النقد الدولي ونحن نعيش حالة الفقر والتخلف دون أن تؤثر هذه النظريات علينا , والواقع أن هذه النظريات والعلاقات لا تخدم إلا طرف واحد وهي الدول الرأسمالية والصناعية .
إن سقوط النظام المالي الاقتصادي مرهون بنجاح تطبيق العملة الذهبية , ولو على صعيد أحد الدول فإن تطبيق هذا النظام المالي سيحالفه النجاح الاكيد , لان القيمة النقدية مرتبطة بالذهب مباشرة وليس مرتبطة بالدولار , وهذا التخوف الوحيد الذي واجهته دول الخليج العربي عندما فكرت بسك عملة ورقية جديدة لها , فماذا لو لم تنعم هذه العملة بثقة المستثمرين ؟؟؟؟ , الاجابة هنا هي مصدر الخطر , ولكن بالنسبة للعملة الذهبية فأنها ليس بحاجة الى ثقة لأن قيمتها محفوظة بمقدار الذهب المتاح بها وهو 4.24 غرام لكل دينار , مع العلم أن هذه العملة بحاجة الى بعض الوقت وسرعان ما ستنتشر في داخل البلد الواحد , والسؤال الذي يطرح نفسه وهو ماذا عن العلاقات الدولية الاقتصادية ؟؟؟ هناك الكثير من المشككين الذي يتخوفون من عدم نجاح هذه العملة بسبب المقاطعة التي ربما تفرض على دولة العملة الذهبية , لنرجع الى الوراء قليلاً والى أزمة المقاطعة الاوروبية للاتحاد الفدرالي الروسي , حيث كان ملحوظاً أن هذه الازمة وهذه المقاطعة أثرت سلبا على حجم التبادلات التجارية بين روسيا والعالم الخارجي وبالتالي فقدان الدولة للعملة الصعبة وإنهيار الروبل الروسي أمام الدولار والعملات الاخرى , في المقابل دولة لا تملك علاقات خارجية , وأن معظم علاقاتها هي علاقات الظل , أي العلاقات الاقتصادية السرية وتكون غير مكشوفة وخفية , فهذه الدولة لن تتأثر عملتها الذهبية لأن قيمتها كما ذكرنا محفوظة , ولكن تدريجيا سوف تؤدي الى رغبة التعاقدات الاقتصادية للأطمئنان لهذه القيمة وعدم تغيرها , ونحن نعلم أن منطقة الشرق الاوسط تعيش حالة من الرعب السياسي والاقتصادي , والثقة بعملاتها المحلية شبه المعدومة , وما أن توجد عملة ذهبية سرعان ما ستجعل هذه العملة للتبادلات ليس في منطقة معينة , بل بكافة المناطق التي تعاني الأزمات الاقتصادية , رغبة من المستثمرين والتجار الاحتفاظ بأموال لن تفقد من قيمتها النقدية أي شيء مستقبلاً , إلا بمقدار انخفاض سعر الذهب , واذا نجحت الدولة بفرض العملة على العلاقات التجارية ولو بمبدأ سوق الظل فأن ذلك تدريجيا سيسحب البساط من تحت الرأسمالية العالمية , وستحصل أزمة اقتصادية اخرى هي الأعظم منذ تأسيس النظام الرأسمالي , في هذه الحالة سوف يتوجه المستثمرون في البحث عن بيئة اقتصادية أمنة أو حتى عن عملة قوية , ولن تجد إلا العملة المرتبطة بالدينار الذهبي , وهذا سيشجع التجار والمستثمرين بزيادة التبادلات التجارية , وما أن تأخذ الثقة الكاملة حتى تتطور العلاقات الدولية الاقتصادية ليس على صعيد المستثمرين والتجار فحسب بل سوف تدخل دول جديدة في الرابطة الاقتصادية العالمية الجديدة , والتي لا تعرف التضخم ولا التكرارية في الازمات الاقتصادية الخانقة , ولا الاستغلال ونهب ثروات الشعوب والأمم , لتحقيق الغايات والسياسات الاقتصادية التي تصب في منفعة أقليات من أصحاب القرار في كل دولة .
جاء الوقت لنظهر حقيقة العملات الورقية , وأن نطالب بعملة ذهبية لتكون هذه العملة بمثابة الحرب الاقتصادية الموجهه ضد العملات الورقية الوهمية , وهذا ليس حلم بل هذا تحليل واقعي في حال نجاح العملة الذهبية بدولة ما .
والله من وراء القصد وآخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين
بقلم د حسين موسى اليمني(الشراونة )
أكاديمي و باحث في العلاقات الدولية والاقتصادية
رئيس قسم العلوم المالية والإدارية كلية قرطبة الجامعية