الفساد السياسي في المؤسسة الفلسطينية

بقلم: خالد بركات

قيل قديماً  " السلطة المُطلقة مَفسدة مُطلقة " ، قول صحيح دائماً، أكدته تجربة البشر والدول، أما السلطة الفلسطينية التي ولدت فاسدة فقد نبتت في غرف الظلام، وفي حضن الشراكة الاقتصادية والأمنية مع العدو الصهيوني برعاية أمريكية -أوروبية وقوى نفطية في المنطقة  والإقليم، جاءت فاسدة سلفاً، ذلك لأن اتفاق أوسلو سئ الصيت كان نتيجة حتمية لنهج الفساد والخراب في " الثورة " و " المنظمة " ولم يكن سبباً. لكن السلطة الفلسطينية أسست لمرحلة أخرى، ولأنها لم تأتِ برعاية الشعب الفلسطيني، ولم تولد تحت عينيه أو في حمايته، فإن مصيرها سوف يكون الزوال بعد هذا الفشل الذريع. شعبنا هو الوحيد  القادر على خلع الهياكل الفاسدة وكل العقبات التي تعترض مسيرته التحررية حتى يستأنف طريقه من أجل تحقيق أهدافه الوطنية في العودة والتحرير.

اليوم، بعد أكثر من 20 سنة على تأسيسها نخر السوس الصهيوني جسد السلطة الفلسطينية الفاسدة وأجهزتها، حتى أدمنته وأدمنها وصار الفساد الفلسطيني الرسمي هو المؤسسة نفسها. فلا فرق بينهما، الفساد هو شكلها وجوهرها واسمها الأول والأخير، وإلا كيف وصلنا إلى هذا الحال ؟ كيف يمكن لمجموعة من الأفراد المتنفذين في القرار السياسي لا يزيد عددهم عن 10 أشخاص أن يقرروا  بالنيابة عن كل الشعب  الفلسطيني؟ لماذا يجري تصفية القضية الوطنية فيما أكبر قوتين تتناحرا على السلطة ؟ كيف يملك شعبنا كل هذا الاستعداد للتضحية والقتال والمقاومة وفي الوقت ذاته يتربع على القرار مجموعة من الفاسدين ؟

الجواب  واضح:  لأن ( القيادة المتنفذة ) تمّثل طبقة سياسية/ مالية ، لا مصلحة لها في التغيير والتحرير والاستقلال الناجز، طبقة كانت فاسدة جداً أصلاً، ثم غرقت أكثر في وحل التبعية والرضوخ للاشتراطات الولايات المتحدة والكيان الصهيوني وانتقلت من كونها إدارة فاسدة في المؤسسة إلى إدارة للفساد، فلا غرابة إذن لو سمعت لسان حال الشعب الفلسطيني وهو يقول في ذهول: من أين جاءت كل هذه الأوساخ ؟

الفساد الأكبر في الساحة الفلسطينية المتعثرة هو الفساد السياسي . وهذا مصدر كل الكوارث،  يبدأ من قمة الهرم في مؤسسات م ت ف والسلطة . انه منبع كل فساد اداري واخلاقي ومالي الى آخره .لم يولد غول الفساد السياسي في المؤسسة الفلسطينية دفعة واحدة، بل بدأ نبتة سامة كبرت مع الوقت في فضاء ملوث يكره الهواء النظيف والنقد الصريح وما يرسمه  ناجي العلي. قيادة تحترف الدجل السياسي فجاءت مطابقة تماماً للنظام الذي أنتجها. لذلك تشبه كثيراً أي نظام عربي فاسد وهزيل. هذا النهج الفاسد لم يجرِ استئصاله ومواجهته مبكراً، بالنقد والحوار والمحاسبة والعزل الجماهيري، فتحول إلى شجرة سامة وصار بوسعها أن تأكل الأخضر واليابس.

بدأ الفساد الفلسطيني الرسمي مذ نصّب البعض نفسه وصياً على ( الشعب الفلسطيني ) وسرقوا إرادته، وحددوا له ماهية وحدود " مصلحته الوطنية  " ، دونما  العودة إلى مؤسسات الشعب أو حتى سماع  رأيه، فهذا النهج السئ الكارثي تصرف وفق عقلية الراعي والقطيع مع " الجماهير الفلسطينية  " فأخذ معه كل الناس إلى خيارات سياسية عقيمة، كانت كلها خاسرة. ومع كل قطعة يقضمها من الحقوق أو يتنازل عنها تسمى في قاموسهم: انجاز وطني كبير! فيما هو في حقيقة الأمر: خازوق وطني كبير!

تسلطت حركة فتح على كل مؤسسات " الثورة " ، من المجلس الوطني  إلى " المركزي " واللجنة التنفيذية  مروراً بالسفارات والمؤسسات الشعبية وصولاً إلى الاتحاد العام لطلبة فلسطين ، هيمنت " فتح " على مؤسسات وأجهزة  السلطة إلى درجة صار يصعب فيها التفريق بين الحركة وبين المنظمة، هذه هي السلطة المطلقة، حين لا تستطيع التفريق بين  الحركة وبين السلطة.  لأن نهج الهيمنة والتسلط أنتج هذا التماهي حد التطابق. إلا أن الهيمنة المطلقة هذه لا تظل كذلك ولا تبقى على حالها، من قلبها سوف تنشأ  صراعات وحروب صغيرة وجديدة على المواقع والمراكز  فكان من الطبيعي أن تنفجر داخل السلطة، التي  بلعت الحركة والمنظمة وكل عناصر المشروع الوطني في آنٍ واحدٍ.

تشظت وانقسمت حركة فتح إلى حركات وتيارات وزعامات وخيارات متناقضة بسبب هذه الصراعات الصغيرة على المواقع، الاصل فيها مرض الهيمنة السياسية المطلقة على كل شئ ، والتبعية المطلقة لمن يدفع اكثر . سياسة الاقصاء والهيمنة والبحث عن الامتيازات الصغيرة التافهة بدل حماية المصالح العليا الحقيقية  للشعب وتغليب مبدأ الشراكة الوطنية وتعزيز الوحدة، جعلت  قيادة المنظمة تذهب إلى المزيد من الوحل والتيه، وصولاً إلى ( التعاون الامني مع العدو الصهيوني ) ،  صار الفاسد يبرر كل جرائمه السياسية، بما في  ذلك طعن المقاومة في ظهرها والاستئثار بالقرار السياسي ويعتبر هذا " الموضوع وجهة نظر " !.

حركة حماس في غزة لم تستفد بدورها من تجربة حركة فتح. وبدل أن تعتبر نفسها جزءاً لا يتجزأ من حركة وطنية فلسطينية متعددة وتناضل على هذا الأساس قدمّت نفسها بديلاً للمنظمة ولحركة فتح ، ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني ! ومع امتلاكها للسلطة، أو  لكل السلطة في قطاع غزة، رأينا بالتجربة الحية الواقعية أنها جاءت من نفس الطينة " الفتحاوية " ذاتها، هي الوجه الآخر لثقافة ولغة الاستبداد والقهر، قفا السلطة  .

إن الصراع بين تيارات متنفذة في كلا الفصيلين، أساسه مصالح طبقية وسياسية يخدم نهج التفرد والتسلط على القرار . فلا يوجد بينهما أي صراع حقيقي لإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني مثلاً، أو كيف نبني  جبهة وطنية فلسطينية موحدة – لا سمح الله -  أن الطرفن لا يؤمنا بالشراكة الوطنية، سيما بعد ان جرى تطويعهما في حرب التنافس القائمة بين اقطاب معسكر واحد في الاقليم عنوانه من يخدم سياسات الولايات المتحدة الامركية !

إن الفساد السياسي الفلسطيني جذره طبقي بامتياز . لأن طبقة البرجوازية والكومبرادور المالي تتصرف مع قضية الشعب باعتبارها صفقة وامتياز . هذا الفساد هو أحد أهم أسلحة العدو الصهيوني في حربه على شعبنا وامتنا . والنهج الذي يتكأ عليه النظام العربي الرسمي في علاقته مع طبقة فلسطينية ماجورة . يعمد الكيان الصهيوني وحلفائه على توسيع ونشر الفساد الشامل في مؤسستنا الفلسطينية لاضعافها وتشتيتها وادخال الشعب الفلسطيني في طرق التيه التي لا توصله الى حيفا . وعليه تصبح مهمة مواجهة و محاربة الفساد السياسي في المنظمة والسلطة والاحزاب الفلسطينية ومؤسساتنا عموما مسؤولية وطنية ومهمة نضالية وأخلاقية بامتياز .