هناك بديهية (علمية) مفروغ منها، يؤكدها الخبراء المعنيون, مفادها أن الأمة أو الدولة أو البلد الذي لا يمتلك رأس مال فكري تخطيطي عملي, لا تقوم له قائمة, ولا يمكن أن ينهض ويواكب الحاضر ويطمئن للمستقبل, هذه القاعدة البديهية, نبّهت الكثير من الدول وقادتها إلى الاهتمام التام بالإنسان وبقدراته الفكرية, ومواهبه في التخطيط للحاضر والمستقبل, فضلا عن تهيئة الكادر التنفيذي الذي يتمكن من تحويل الأفكار والبنود والخطوات النظرية, إلى منتج واقعي ملموس, وبهذه الطريقة العلمية العملية المزدوجة, ارتقت وتطورت بعض البلدان التي كانت متأخرة, لدرجة أصبح بعضها من الدول التي تتربع عرش التقدم الاقتصادي والثقافي وما شابه, كما نلاحظ ذلك في الهند والصين وماليزيا وغيرهما.
لنأتِ الآن إلى وطننا الحبيب فلسطين, ولنتحدث بوضوح تام عن الحاضر والمستقبل, وعن دور رأس المال الفكري في طرح الخطط والرؤى العلمية في الاقتصاد وسواه من المجالات الأخرى, ولنسأل بوضوح أيضا، هل هناك أفكار إستراتيجية وخطط علمية متخصصة, يطرحها القائمون على هذا الوطن, تهدف إلى بناء حاضر ومستقبل فلسطين في مجالات الحياة كافة!!! وتدخل ضمنها مجالات التعليم والصحة والثقافة والاقتصاد وغيرها من المجالات!!! وهل يبذل قادة هذا الوطن الذين يتحكمون بصنع القرار, ما يكفي من جهد فكري عملي تخطيطي, لبناء حاضر ومستقبل وطننا بما ينسجم مع قدراته المالية والبشرية ومنها الكفاءات والمواهب والمهارات؟ هل هناك ما يثبت أو يؤكد أو يؤشر على الأقل, سعي المسئولين من أصحاب القرار بالتوجّه نحو بناء حاضر متطور لفلسطين؟ وإذا كان واقع الحال الفلسطيني يغوص في الفوضى والإرباك, نتيجة الصراعات السياسية والانقسامات والتشرذمات داخليا, الأمر الذي يعرقل الخطط الآنية للنهوض بهذا الوطن, كما يدّعي المسئولون، فهل هناك خطط مستقبلية علمية عملية متخصصة, تنم عن اهتما أصحاب القرار وأولي الأمر بمستقبل هذا الوطن أرضا وشعباً.
في الحقيقة واستنادا إلى الوقائع, وما يجري على الأرض, فكل الدلائل والمؤشرات, تؤكد انتفاء مثل هذا الاهتمام, وغياب مثل هذه الخطط وغموض تام يلف الحاضر والمستقبل الفلسطيني, في ظل إهمال تام للقدرات الفكرية والكفاءات الفلسطينية, وقصر الاهتمام الحكومي بالأمور والمصالح والمنافع الشخصية او الفئوية او الحزبية, أما ما يتعلق ببناء الحاضر أو المستقبل, فهو أمر خارج نطاق تفكير او اهتمام أصحاب القرار.
ولهذا تحوّلت فلسطين الى وطن يعيش على الهبات والتبرعات والمنح الدولية والعربية, وهي تعتبر الآن دوله مستهلكة من الدرجة الأولى, تصدّر ما بقي من منتوجاتها وأسماكها وخضرواتها وتعتمد عليهما كإيراد أوحد, ثم يستهلك كل ما يحصل عليه من مواد مستوردة تشمل أصغر وأكبر شيء يحتاجه الإنسان الفلسطيني (من إبرة الخياطة الى السيارات, ومن البقدونس الى البطاطس, ومن كوز اللبن إلى بكيت الحليب, ومن لحم العصفور الى العجل)
فلا توجد لدينا صناعة حيث تم تدمير المصانع وتجريف المزارع وحرق المتاجر من قبل إسرائيل في حروبها على غزة واعتداءاتها في الضفة الغربية ومدينة القدس, وإغلاق المحافظات بالحواجز والحوائط الإسمنتية, ولكن بالرغم من هذا وذاك أين الثمار لكي يقطفها الشعب حاضرا ومستقبلا لو اتحدنا مع بعضنا البعض وأزلنا كافة الضغائن من قلوبنا وتوحدنا خلف قضايانا المصيرية الوطنية الواحدة, ألم يفكر قادة الحاضر وأصحاب القرار, ماذا سيحدث لو جفّت المساعدات والهبات والمنح الدولية, وخلت ارض فلسطين من خيراتها,؟ أليس من الواجب الإنساني والوطني والشرعي أن يفكر قادة اليوم بالأطفال القادمين من أصلابهم وأصلاب الرجال الآخرين من أبناء شعبنا.
وهكذا لا يوجد اهتمام حكومي من أصحاب القرار في بناء حاضر شعبنا، والأخطر من ذلك إهمال المستقبل كليّا, والانشغال بصراعاتهم ومصالحهم الآنية الزائلة، والتي ستكون بدورها سببا بزوالهم، لذا على جميع هؤلاء ممن له حصة ومشاركة في صنع القرار الرسمي الحكومي, أن يعيدوا النظر بطريقة إدارتهم وطنهم، وعليهم أن يتخلوا عن فرديتهم, طالما إنهم ارتضوا قيادة الشعب, فليس أمامهم سوى الاهتمام العلمي في بناء الإنسان الفلسطيني واعتماد الفكري والعملي لبناء حاضر الجماهير الفلسطينية, والقضاء الفوري على الانقسام, والانطلاق فورا من قاعدة الحاضر القوية نحو المستقبل, لضمان حقوق الأجيال القادمة من خيرات وطنها، ولابد أن يتجّه الجميع، قادة ونخب وأولي أمر, نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في الصناعة والزراعة ومجالات الحياة الأخرى, ومغادرة حالة الإهمال المزمنة التي يعاني منها الجماهير الفلسطينية, بسبب انشغال المسئول عن رعيته وواجباته!!
الإعلامي والباحث السياسي