الوقاية من العمالة خير من العقاب

بقلم: عبد الحليم أبوحجاج

هالني حجم الدمار الذي حدث في العدوان الإسرائيلي على غزة 2014، واحد وخمسون يوما والشعب الفلسطيني في أتون محرقة " نتنياهو " التي فاقت كل المحارق التي سجلها التاريخ من عهد " نيرون " الذي أحرق روما إلى عهد " شارون " الذي أحرق بيروت. ولكن الذي أرعبني هو كثرة العملاء وحجم نشاطهم الذي تجلَّى في دقة معلوماتهم عن جغرافية المساكن والأماكن المستهدفة وتحديد مواقعها على الأرض، وتزويد المخابرات الإسرائيلية بها وبأرقام الهواتف والجوالات التي كانت ترن في غرف النوم والناس نيام، تنذرهم بوشيك القصف الصاروخي المرتقب، فتثير الرعبَ والذعرَ في صدور الآمنين وهم في مخادعهم .وكنت كلما سمعت بقصة حدثت أتساءل مستنكرا: هل يوجد في شعبنا هذا العدد من العملاء الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا خونة مجرمين، يبيعون أنفسهم للشيطان ويبيعون كرامة الأرض المقدسة وشرف أهلها الطيبين نظير حفنة من الدولارات أو مقابل وعد مشئوم ؟. هل يوجد في شعبنا مَن يتآمر ويتخابر مع العدو ضد أهله وأبناء شعبه ويتسبب في قتلهم وتدمير بيوتهم على رءوسهم وهم نائمون ؟ ويزرع العاهات والحسرات في قلوب الناجين ؟.

لقد أصبحت العمالة في بلادنا ظاهرة تستحق الاهتمام والدراسة، والباحث فيها يجد أن الكثير من هؤلاء العملاء شباب غِر أو جاهل ليس لديهم دراية في الحياة، وليس لديهم الخبرة الكافية التي تجنِّبهم هذه المزالق، وتقيهم شر الانحدار في هذه المهالك الخطرة. فوجدوا أنفسهم فرائس في شباك المخابرات الإسرائيلية وعملائهم وهم لا يدرون كيف !. فليس كلهم ضعفاء النفوس وليس معظمهم ممن خُلق ولديه استعداد طبيعي ليكون عميلا، بل إن أغلبهم لم يسعَ لذلك ولم يفكر فيه، ولكن الظروف القذرة ألقت بهم في مهاوي العمالة وأودت بهم إلى التهلكة. وأول هذه المهالك وأخطرها (الإنترنت) الذي من خلاله يحدث التعارف والتحادث وتكوين صداقات جديدة ...وقد يكون على الطرف الثاني فتاة مرتبطة بمخابرات العدو، تغري فتاها بكلمات الإعجاب وتعرض صداقتها عليه، ثم تمنيه بالزواج، ثم تبدي نخوتها بمد يد العون والمساعدة المادية حين تستدرجه للحديث عن طبيعة عمله، فيشكو لها البطالة والفقر وضيق الحال . ولا بأس أن تصعِّد من نخوتها فترسل إليه بضع مئات من الدولارات دفعة أولى يتبعها دفعات أخر، ثم يطول بينهم حبل العشق القذر والحب الموبوء فتتعرَّى له عبر كاميرا " النت " تُتبعها حركات جنسية شهوانية حيوانية لتثير غريزته المتأهبة للإثارة، وحينها تطلب منه أن يبادلها التعرِّي، وطبعا التسجيل من طرفها يقوم بالتصوير الناطق وهو لا يعلم أنه أصبح ألعوبة بيديها...ثم تسلمه ضحية جاهزة لأيدي ضباط المخابرات الذين يساومونه على بيع نفسه، وحين يأبى في البداية يهددونه بفضح أمره للأمن الداخلي، وبنشر صوره العارية وصوته الخليع  ليراه ويسمعه الأهل والناس. ويخشى هذا الشاب الفضيحة ويخاف العاقبة فيستسلم ويسلم قياده للمخابرات الإسرائيلية. وليست الفتيات بعيدات عن هذا المشهد، فالسقوط هو السقوط عن طريق (الإنترنت)، حين يبدأ التعارف بينها وبين أحد الشباب، فيتحادثان في أمور عامة، ثم يبدي إعجابه وإطراءه بجمالها، ثم يعدها ويمنيها بالزواج، وقد يلتقيان إن كان ذلك ممكنا ويجتمعان في حجرة واحدة وعلى سرير واحد تحت تأثير الوعود الكاذبة، أو يتعريان أمام كاميرا " النت " اعتقادا منها أنهما في غفلة عن العيون، وهي لا تعلم أن كل شيء يدور بينهما تسجله الكاميرا الخفية بالصوت والصورة. ومن هنا تبدأ المأساة، فتنجر إليه وتجرجر شرفها وتمرغ كرامتها وكرامة أهلها في وحل العمالة، وتستمر في الانزلاق إلى قعر الرذيلة؛ رذيلة خيانة الوطن والأهل. وهكذا هو السيناريو في أية قصة تفرخ عميلا جديدا أو عميلة. فلو أن هذا الشاب أوهذه الفتاة على وعي مسبق بوسائل وأساليب المخابرات الإسرائيلية في إسقاط عملائهم لنجا كثير منهم. ولو أنهما يعلمان أن البوح بسرهما للأهل أو للأمن الداخلي حين يرفضان الانصياع لمخابرات العدو يقابله التسامح وإنقاذ ما يمكن إنقاذه وانتشالهما من وحل القذارة قبل الغوص في مستنقع العمالة لما كان ما كان. ولكن الأهل وأجهزة الأمن والمجتمع كله يتقاسمون اللوم والمسئولية. والسؤال الكبير: ماذا يجب على مفردات المجتمع فعله لإيقاظ الوعي الوطني وإحياء الوازع الديني في نفوس أفراد المجتمع صغيره وكبيره، ذكره وأنثاه، لحمايتهم من التردي في أوحال الخيانة الوطنية، وأوحال التعاطي  للمخدرات وحبوب "الترامادول" التي تفقد صاحبها التوازن النفسي والعقلي؟. والإجابة حاضرة، فإذا كانوا قد قالوا : الوقاية من الأمراض خير من العلاج، فنحن نقول: الوقاية من العمالة خير من العقاب. وهذه مهمة المجتمع بأسره وبكل مفرداته ومكوناته، أولها:الأسرة حيث واجب الوالدين في تربية الأبناء تربية دينية تعصمهم من الزلل، وتنشئتهم تنشئة اجتماعية تحصِّنهم من الوقوع في الخطأ، ومراقبتهم ومتابعتهم بتقديم النصح والإرشاد لهم، وتعزيرهم إذا لزم الأمر. وثانيها: المدرسة والمسجد والكنيسة والجامعة والنادي والمؤسسات الحكومية والأهلية، كلٌّ يقوم بدوره في إيقاظ الوعي عن طريق الدروس والمحاضرات، وإقامة الندوات واللقاءات الجماهيرية وورشات العمل التثقيفية للجنسين من مختلف الأعمار، يشترك فيها رجال دين وتربويون وحقوقيون وموجهون سياسيون ورجال شرطة وأمن داخلي وأطباء نفسيون وعلماء اجتماع، لتبيان وسائل ووسائط المخابرات الإسرائيلية وعملائهم، وتعريف الناس بسلبيات المخدرات والترمادول وأخطارها وانعكاساتها على الشخصية السوية. ولا بأس من مشاركة مَن كان له تجربة في هذا المضمار ونجا وتاب للاستفادة من خبراته لإيقاظ الغافلين قبل أن يغرقوا في المستنقع القذر.وكذلك لتهيئة أفراد الشعب كله لحمل الأمانة الوطنية وعدم البوح بأسرار الوطن لأحد غريب مهما كانت صغيرة، والحذر من الاستهتار بسلامة الوطن وأمنه. فالوطن وأسراره أمانة في أعناق الجميع. إذن فلتتضافر كل المؤسسات الحكومية والأهلية لتوعية الناس وتبصيرهم بما يمكن أن يواجههم، لا بالترهيب والترعيب من قسوة العقاب بل بالترشيد ليأخذوا حذرهم،وبترغيب من كُتب عليه السقوط أن ينتفض ويخلع عن نفسه لباس العمالة، بشرط أن يكون مطمئنا أن المجتمع يفتح له حضنه الحنون ويزرع في طريقه شجرة الأمان ليستظل بظلها بعد أن  يتوب ويكفِّر عن خطاياه .

ولنا كلمة أخيرة نوجهها إلى الحكومة والحُكَّام:الشعب يستصرخ كما أن تؤدوا الأمانة، يستنهضكم أن تقوموا بواجباتكم مادمتم أولي الأمر فينا، أعطوا الرعية حقوقها، ومدوا يد العون للعمال وللشباب خريجي الجامعات، وفروا لهم الوظائف ليعتاشوا منها، وابحثوا لهم عن أماكن عمل في الداخل وفي الخارج كما كانت تفعل م.ت.ف في السبعينات والثمانينات. اخرجوا أهل قطاع غزة مما يعانيمن القهر السياسي والاقتصادي، ومن ضيق الحال الذي يتمثل في الفقر والحصار. انتشلوه من التردي في وادي التشرذم السحيق الذي أحدثه الانقسام البغيض.افتحوا له حسابا في دفتر مهماتكم، ورحم الله الزعيم الراحل الشهيد ياسر عرفات الذي كان يحمل في رأسه هموم وأوجاع الفلسطينيين أينما وُجدوا، لا يغيبون عن مواقعهم في خريطة وجدانه .***