ينشط الباحثون في علم الفلك في الأيام الأخيرة من كل عام بوضع تصوراتهم للعام التالي، لم يعد الحديث لديهم يقتصر على قراءة الطالع وما تقوله الأبراج بالشأن الخاص، بل تجاوز ذلك للشأن العام المتعلق بحياة الشعوب والدول، قراءتهم للمستقبل تحدد الدول التي ستشهد اضرابات وتلك التي ستنعم بالأمن والأمان، ولا يبخلون علينا بربط اقوالهم بحركة الكواكب والنجوم في كل شاردة وواردة، عادة ما يرتبط استقراء الغيب للفرد بتاريخ ميلاده، فهل للشعب والدولة تاريخ ميلاد يمكن التنبؤ بمستقبله من علاقة الكواكب بالبرج الذي ينتمي إليه؟.
كرة اللهب تتوسع في منطقتنا في العام القادم، هذا ما يقوله الواقع والمنطق قبل أن تنطق به باحثة الفلك، ومن يقول لنا أن بغداد ستعود في العام القادم إلى زمن ابو جعفر المنصور، وأن دمشق ستستعيد في الأشهر القليلة القادمة زمن عمر بن عبد العزيز، وأن اليمن سيرجع سعيداً كما كان، وأن فسيفساء الطائفية في لبنان ستنجو من اللهب المحيط بها، وأن الانقسام الفلسطيني سيغدو أطلالاً، وأن حكومة الاحتلال القادمة لن تقرع طبول الحرب وأن رئيسها القادم سيتبنى فلسفة غاندي، من يقول لنا شيئاً من ذلك لا يلامس الواقع والمنطق في شيء وهو إلى الجنون أقرب، معطيات الواقع ببساطة تشير إلى إمكانية تطاير شرر كرة اللهب إلى أبعد مما هي عليه الآن.
المشكلة لم تعد تتعلق بالتعاطي مع تنبؤات الباحثين في علوم الفلك، بل في حالة الدجل والشعوذة التي تتوسع في مجتمعاتنا العربية، حيث تشير دراسة إلى أن اكثر من ربع مليون مواطن عربي يعملون في مجال الدجل والشعوذة، وأن الأرقام التي تنفقها الشعوب العربية على السحر والشعوذة تفوق ميزانية دول في العالم المتقدم، ومن المفارقات الساخرة أن القاضي المرتشي، الذي ضبط متلبساً في أحد الدول العربية، عندما مثل أمام المحكمة ادعى أن الجن الذي يسكنه هو الذي أجبره على فعل ذلك، واستكمالاً للمسرحية الهزلية فقد طالب محامي القاضي "المرتشي" الإستماع إلى شهادة الجن الذي يسكن موكله، فما كان من المحكمة سوى أن استدعت الراقي الشرعي لإستجواب المتهم والجن الذي يسكنه.
إن كانت الشعوذة قد طرقت باب العدالة في عالمنا العربي فقد تمكنت سابقاً من اقتحام عالم السياسة وتربعت فيه، السياسة اليوم هي التربة الأكثر خصوبة لإحتضان الدجل والشعوذة، يبني الساسة شعوذتهم من خلال اقناعنا بإتصالهم بالأرواح المتحكمة بمستقبلنا، وبالتالي لديهم القدرة على التنبؤ بغدنا، في الدول المتقدمة يتم صياغة خطة الدولة بعد دراسة متانية ومستفيضة يشارك فيها الخبراء بمشاربهم الفكرية والتخصصية المختلفة، التخطيط لديهم يضع محددات للطريق الذي ستسلكه الدولة، لا مجال للشعوذة والدجل والاجتهاد أن يدنو منها.
العاملون في الشعوذة والدجل في عالمنا العربي يحيطون أنفسهم بشيء من القداسة، يدفعون بها ضحاياهم للإعتقاد بأن مخالفة تعاليمهم من المحرمات، وكذلك تفعل الشعوذة السياسة في عالمنا العربي.